التاريخ يكتبه المنتجون

27 أكتوبر 2021
ليني ريفنشتال في أثناء العمل على فيلم "إرادة الانتصار" في عهد هتلر (Getty)
+ الخط -

فيلم "انتصار الإرادة" (1935) للمخرجة الألمانية ليني ريفنشتال الذي يعتبر واحداً من أهم الأفلام الوثائقية، يقدّم لنا هتلر كأعظم رجل في العالم.

كل لقطة فيه مدروسة بشكل كاف، ليظهر فيها زعيم الحزب النازي أقوى شخصية في العالم. خلفه الجماهير التي يشرف عليها من منبره المرتفع، ولا نراه في الفيلم على نفس المستوى مع الناس، فهو دائماً فوقهم، وجميعهم من الأسفل مغرمون به.

والأمر بطبيعة الحال يجب أن يبدو كذلك. فمنتج هذا الفيلم هو حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني، حزب هتلر المتحفز للانتصار في ذلك الوقت.

بعكس الأفلام التي أنتجها الخصوم بعد هزيمة هتلر، الوثائقية منها والدرامية التي صورته أقبح كائن على وجه البسيطة.

معظمها تحدث عن جرائمه بحق الإنسانية، والكثير منها عن سلوكه. فهو هنا مضطرب نفسياً وهناك مثلي جنسياً وإلى ما هنالك من الصفات التي ألصقت به. وهو يجب أن يكون في هذه الأفلام كذلك، لأن من أنتجها خصومه وضحاياه.

عندما كنت في كازاخستان، عُرضت علينا في أحد المتاحف مقاطع من فيلم يصور أمجاد وبطولات جنكيز خان، والتي تحتوي على صور رؤوس الفرسان الأعداء التي جعلتها أسياف جنده تتساقط من فوق أجساد أصحابها.

من الطبيعي أيضاً أن يبدو جنكيز خان بهذه الصورة المشرفة في عيون أحفاده. ومن الطبيعي أن يبدو سفاحاً في الدراما التي أنتجها أحفاد أولئك الفرسان الذين تطايرت رؤوسهم من بين أكتافهم في ذلك الفيلم.

كذلك يمكن أن نتحدث عن فيلم "تشيرنوبل" الروسي، الذي تناول الكارثة من زاوية إنسانية تصور معاناة ومشاعر أهالي تشيرنوبل، الذين كانوا أول من تلقى الصدمة، بينما تناولها المسلسل الأميركي من وجهة نظر سياسية طغت على الجانب الإنساني، باتجاه إدانة القيادة السياسية هناك.

والحديث يمكن أن يدور على مئات وربما آلاف الأفلام والأعمال الدرامية المختلفة التي تصور التاريخ، والتي تملأ شاشاتنا في الموسم الرمضاني، منها العربي ومنها الأجنبي، وسنجدها كلها متناقضة وتفتقر إلى الموضوعية والحيادية.

هذه العملية لا تنتج من باب التحيز لفرضيات التأريخ الذاتي فقط، وإنما أحياناً تكون مرسومة ومخططة في كواليس أجهزة أمنية، من أجل التأثير على بلد آخر، فيتم التركيز على نقطة سوداء من تاريخه كما يحصل في التعامل مع تركيا التي تتذكر الدراما مذابح الأرمن فيها بشكل خاص في فترة الأزمات السياسية، حيث يسلط الضوء على تلك اللحظات من التاريخ، وتوضع تحت المجهر، وتحريض الجمهور ضد هذه الدول.

صانع الدراما يدرك جيداً أن الحقيقة بعيدة كل البعد عما يحتويه السيناريو الذي يقدمه

لا شك في أن أهمية الدراما، بالنسبة لمن يقرر إعادة كتابة التاريخ، تنبع من أنها الأوسع انتشاراً وتأثيراً على الجمهور، أكثر من كتب التاريخ.

وصانع الدراما يدرك جيداً أن الحقيقة بعيدة كل البعد عما يحتويه السيناريو الذي يقدمه. وهو في الكثير من الأحيان لا ينطبق عليه وصف "يعلم"، وإنما يكون التزوير في التاريخ بمبادرة منه.

ولكن هذا لا ينفي بطبيعة الحال، وإن كان ذلك قليل الحدوث، أن هناك دراما تتناول التاريخ بشكل موضوعي بعيد عن الحجوزات السياسية. ومع ذلك فإن حكمنا بأنها موضوعية نابع من قناعتنا، بينما هي في قناعة البعض الآخر غير موضوعية.

أحدهم قال "إذا حذفنا كل الأكاذيب من التاريخ، فهذا لا يعني أنه لن يبقى سوى الحقيقة". بكلام آخر التاريخ لا يحتوي على حقائق كاملة. وبالتالي فإن الدراما التاريخية لن تأتي بحقائق غير موجودة أصلاً، وستتكتفي قليلاً بالتنوير، وقليلاً بالتكرير والتدوير، وكثيراً ما تحاول إعادة التزوير وتكريسه.

وإذا كان التاريخ في الحروب يكتبه المنتصرون فإن التاريخ في الدراما يكتبه المنتجون، وفي كلا الحالتين يمكن استبدال مفردة "يكتبه" بمفردة "يزوّره".

المساهمون