البولندي "لا تترك أي أثر": فضحٌ سينمائيّ للتسلّط يترك أثراً

16 فبراير 2022
"لا تترك أي أثر": تحطيم الفرد وقناعاته (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يُضيف المخرج يان بي. ماتوشينسكي (1984) مُنجزه الأخير، "لا تترك أيّ أثر (العنوان البولندي الأصلي: "لن يكون هناك أيّ أثر"، 2021)، إلى المُتراكم من الإبداع السينمائي البولندي، المعني بمراجعة الحقبة التاريخية التي حكم فيها الشيوعيون البلد، مُكرّسين فيها نظاماً شمولياً. من أكثرها رهافةً وبراعة في تجسيد طبيعة السلطة القمعية الحاكمة، ومحنة المثقّف المعارض لها، والراغب في الفكاك منها، "حرب باردة" (2018) لبافل بافليكوفسكي (1957)، الذي فكّك ـ عبر قصة حبّ بين موسيقار ومُغنيّة ـ حساسيات ثقافية ومجتمعية نشأت في الحرب الباردة، وحلّل ـ في نصّه السينمائي العميق ـ بنية أيديولوجية مركزية، لا تتحمّل خروجاً على مبادئها، أو معاندةً لها.

مثله، يستعيد ماتوشينسكي، في منجزه الجديد ـ المُشارك في المسابقة الدولية للدورة الـ45 (28 يناير/كانون الثاني ـ 6 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان غوتنبيرغ السينمائي" ـ مرحلة متأخّرة من تلك الفترة، مستنداً في كتابتها سينمائياً إلى رواية الكاتب سيزاري لازاريفيتش ("لن يكون هناك أي أثر: حالة غْزِغورزا بْسِمِكا"، 2016)، التي تناولت تصفية رجال الشرطة البولندية للشاب بْسِمِكا، عام 1983.

يُحيل موت شابٍ ـ تخرّج للتوّ من الثانوية، واحتفل بالأمس مع أصدقائه وعائلته في بيت والدته، الشاعرة المعارضة باربارا سادوفسكا (ساندرا كورزنياك) ـ إلى قطع قاسٍ لخطِّ حياةٍ، كان لها أنْ تستمرّ بشكل عاديّ، لولا تدخّل عامل خارجي، وضع نهاية تراجيدية لها، بإرادته. مُفتتح السرد يُسرِّب توقاً إلى عيش حياة. المشهد الأول يؤسس جواً بوهيمياً بهيجاً، شاع في البيت صبيحة اليوم الذي يواجه فيه غْزِغورزا بْسِمِكا (ماتِوس غورسكي) مصيره، يرافقه كشاهد عليه صديقه، المحتفل معه، يوريك بوبيال (تمثيل بارع للدور الرئيسي، يؤدّيه توماس زْياتِك). ظهرا معاً، للمرّة الأخيرة، في ساحة وسط العاصمة، وارسو، مُنتَشين، في لحظة سعادة، يفسد بهجتها عليهما رجل شرطة، طلب منهما هويتيهما. أزعجه ادّعاء الشاب نسيانها في المنزل، فسحبه عنوة إلى سيارة، قادتهما إلى مركز الشرطة. فيه، ضُرب بشكل مبرح، والضابط أوصى ضاربيه ألاّ يتركوا أيّ علامة على جسده، تفضح تعذيبهم له. الشاهد الوحيد على فعلتهم صديقه، المفجوع بما يراه من انتهاك شنيع، لا يفهم دوافعه، ولا ما يُبرّره.

بفعل التأسيس الدرامي للحدث، المُوصِل إلى موتٍ، يتنكّر مُسبّبوه دورهم فيه، برز محوران مركزيان: الدولة، والشاهد الوحيد. الأولى تحمي مؤسّستها القمعية، والثاني يكرّر قول مشاهداته، ويُصرّ عليها، إخلاصاً للحقيقة، ولصديقه. من المشهد المُشَكَّل من طرفين غير متكافئين، تظهر المفارقة الساخرة من السلطة، وخوفها من كل فعل معارض لها، ولما تريده. غضب رجال الشرطة واستهتارهم نابعٌ، في جوهره، من كراهية السلطة القمعية لمواطنيها. كراهية مُكتسَبة للمُعبِّرين عن مشاعرهم وفرحهم علناً. ولأنّ التجهّم جزءٌ أساسي من مُكوّن السلطة القمعية، يُعدُّ كلّ ما يعاكسه تحدّياً لها.

هنا، يكمن خطأ الشابين، الفرحين بنجاحهما الدراسيّ. لم يفهما قانون سلطة بلدهما، المُكرِّسة وقتها وثرواتها لبثّ الرعب في قلوب مواطنيها. في مشهد عابر، في سياق تصاعد الأحداث، يتعمّد ماتوشينسكي إحضار شخصية الرئيس البولندي، الجنرال الغامض فويتشيخ ياروزلسكي (1923 ـ 2014)، المتستّر دائماً بنظّاراتٍ سوداء، تحجب عن عينيه الضوء، حتى في حلكة سواد الليل.

 

 

مع تزايد ملاحقة أجهزة الشرطة للشاب، وتصاعد أساليب الترهيب للمقرّبين منه، تذوب السخرية، ويحلّ الغضب من نظامٍ لا يتورّع عن ترتيب المؤامرات واختلاق الأكاذيب وانتهاك الأعراض، يُنفّذها أتباع له، تجرّدوا من بقايا ضمير. يجنِّد النظام إلى جانبهم مخبرين، مُكلّفين بملاحقة الشاهد، ومنع حضوره إلى المحكمة، التي أرادوها صُورية.

على خطّ التصعيد، يظهر دور حركة "تضامن" النقابية، التي يُخفي أعضاءٌ منها الشاهد، وينقلونه من مكان إلى آخر، فالسلطة تكشف المكان، ثم تطاردهم إلى المكان الآخر. في خضمّ المطاردة، يتسرّب الخوف إلى قلب الشاب، ويُربك توازنه، بينما تتراجع رغبة أمّ الضحية في البقاء، وتفضّل الموت عليه. يُطيل السيناريو (كتابة مشتركة للمخرج مع كايا كرافتشيك ـ فْنوك) مدّة الفيلم (180 دقيقة)، لمزيد من فضح مرحلةٍ فتحت، رغم سوداويتها، منفذاً واسعاً إلى نشاط معارضة سياسية، لفتت قوّتها انتباه العالم، وأجبرته على ملاحقة ما يجري في بولندا.

في خضم الملاحقة، يتخلّى كثيرون عن مواقفهم خوفاً. في النهاية، يجد الشاب نفسه وحيداً في مواجهة السلطة. جاء إلى المحكمة، وخضع لاستجواب مُدّعية عامة مُحنّكة، تعرف كيف تُربك تفكيره، وتضعه في حيرة عند استعادته الأحداث، كي يبدو أمام القضاة كذّاباً، وغير متأكّد من صحّة ما شاهده. جملة واحدة تشبّث بها، هزمت القضاء السلطوي، وظلّ يكرّرها في المحكمة: "لا تتركوا أيّ أثر، قال الضابط لرجاله. لا تتركوا أي أثر". لم يفلحوا، إذْ تركوا أثراً يوم أبقوه شاهداً وحيداً على جريمتهم.

لا تشي النهاية الدراماتيكية، المشحونة بانفعالات، بانتصار حاسم، لكنّها تُذكّر بشجاعةٍ، أخافت الديكتاتورية، وهزمت خُدّامها ورجالها. اعتنى الفيلم كثيراً بالتكوينات النفسية والسلوكية لأتباع السلطة، فالتركيز عليها مردّه أنْ بالأبطال وحدهم لا تستقيم المعاينة التاريخية، إذْ لا بُدّ من توافرها على العوامل المُسبّبة لظهورهم، كما الجمال الذي لا يكتسب معناه إلاّ بوجود القُبح.

في السينما، لا يُعوَّل على نُبل الأفكار وحدها، من دون العناية بالاشتغال السينمائي، الحاضر بقوّة لافتة للانتباه في "لا تترك أيّ أثر"، إخراجاً وتمثيلاً وكتابة وتصويراً، والأخير نقل ثمانينيات بولندا، بتفاصيلها ومناخاتها السياسية المُنفِرة. انعكاساتها النفسية تجد اكتمالها التعبيري في الموسيقى التصويرية (اللبناني الفرنسي إبراهيم معلوف).

معالجة ماتوشينسكي للمرحلة التاريخية، المُنتهية بنهاية الأنظمة الشيوعية، تأكيدٌ جديد من السينمائيين البولنديين على أنّهم لن يتركوها تمرّ من دون إخضاعها لمعايناتهم الفردية الرصينة.

المساهمون