الأغنية العربية المعاصرة: تراجع الشعرية وهيمنة اللحن

18 ديسمبر 2020
النظام الرأسمالي يؤطر عمليات الانتشار والأرباح بما يخدم تطلعات المنتجين (Getty)
+ الخط -

ليس من المنصف اتهام غالبية الأعمال الغنائية العربية بالتكرار والنمطية، وحشرها في خانة الجمود، شكلًا ومضمونًا.

لكن، لو سلخنا عنها النمط الشعبي السائد، سنحرر جزءًا صغيرًا منها، يساهم في تحليل الواقع التفاعلي لهذه الأغاني نقديًا، بمعزل عن الأسس التاريخية والصيغ الهادفة للتطور السليم التي تفتقر إليها صناعة الأغنية الشعبية.

أغاني البوب الرائجة وغيرها من الأنماط الموسيقية التي تشكل مفهوم الأغنية التجارية، لا تقوضها عملية تفكيك جوهرية ثم تحليل واسع، يخرج عن نطاق المادة الفنية ليشمل الوعي الجماهيري. هنا سنفتح حربًا خاسرة لجهة الجمهور المتنوع صاحب المزاج المحتكم لبيئته وظرفه ومستوى ثقافته.

كما أنَّ الأعمال الغنائية المسلّعة والمعدّة للاستهلاك العمومي، والمحكومة بنظام رأسمالي مسيطر، تؤطر عمليات الانتشار والأرباح بما يخدم تطلعات المنتجين والموزعين. التسارع والشهرة كسرا جميع المقاييس والمعايير الفنية. وعباءة الإنتاج وماكيناته النافذة جعلت عملية تحرر الثقافة الجماهيرية أكثر تقيدًا واستلابًا. فلم يعد النص الشعري الغنائي، كعنصر أساسي في بناء الأغنية، يمتلكُ أهمية موضوعية. الشكل البنيوي للقصيدة أصبح مستهلكًا. الوزن والقافية الشعرية ليستا عبئًا على المؤلف، حين تكون الكلمة "القفشة" (القافية) هدفًا أساسيًا وغاية ملّحة لإنتاج الأغنية "الهيت" (الضاربة) وطرحها في الأسواق. وهذه الغاية مرهونة بوقع الكلمة وأثرها على الشارع حيث منشأها واستلهامها الأول. فالشعرية الغنائية الراقية لم تعد تخدم الوظيفة الربحية بسرديتها وعمق مشاعرها. والمقاطع أصبحت تقتصر على استخدام هرم شعري مؤلف من شطور أو عبارات قصيرة لا تتجاوز الثلاث كلمات ضمن ترتيب تسلسلي مجزأ، لا يشترط التصوير الشعري البليغ أو المجاز الكلامي.

الوزن والقافية الشعرية ليستا عبئًا على المؤلف، حين تكون الكلمة "القفشة" (القافية) هدفًا أساسيًا وغاية ملّحة لإنتاج الأغنية "الهيت"

وهنا حين نستخدم مصطلح الأغنية الدارجة، وفق هذه المقومات، مضافة إليه لغة السوق التنافسية والموسمية، ستنسحب الكلمة من قيمتها الشعرية لتفسح المجال لدور اللحن وصانعه ليصبغ موسيقاه بأسلوب يطمح لتمثيل الأغنية الضاربة، عمادها الألحان الراقصة والجاذبة للجماهير وأذواقهم. وهذه العملية تجعل نسق التكرار أمرًا شكليًا حين نستمع لمئات الأغنيات، تتكرر فيها الكلمات بشكل مبالغ فيه، فيصبح المستمع منصاعًا للحن والنغم، غير مكترثٍ لصدى الكلمة وتأثيرها. ولكن ذلك لا ينزع عن الألحان نمطيتها وتكرارها هي الأخرى، إلا أن سطوة اللحن الجديد هي النقطة الفارقة في نجاح الأغنية أو فشلها، حتى وإن وُجدت في الأغنية بعض المفردات الجديدة.

ليس غريبًا أن تعبّر الأغنية الشعبية عن تطلّعات الجماهير وأهوائهم بما يتناسب مع ثقافتهم وبيئتهم، حين تمتلك يد الإنتاج جميع الأدوات اللازمة لتقويض الأذواق والتحكم بها. وعليه، فإن أي محاولة للخروج عن النسق السائد، ستغرق أمام زحمة الأعمال التجارية، وتختنق تدريجًا بفعل التضييق عليها لأسباب متعددة. فالرهان الإعلامي والدعائي من أنجح هذه الأساليب وأكثرها تأثيرًا على حركة السوق. تليها النزعة البيروقراطية المتحكمة بمفاصل الإنتاج الموسيقي وعملياته. ونشير هنا على وجه الخصوص إلى تأثير التبعية كحامل أساسي للغة الاحتكار. وأول المتضررين أمام هذا الحامل هم الكتاب والشعراء والملحنون الصاعدون. عملية الدخول للوسط الفني والاحتكاك بالمنظومات الفنية الكلاسيكية أو المعاصرة تتطلب شروطًا تعجيزية يستحيل معها طرح وجهات نظر مختلفة تعبر عن أفكار متجددة وبناءة. وذلك يعود لسببين أساسيين: أولًا، تدخّل الملحن والموزع في اختيار كلمات الأغنية. أي بمعنى آخر بإمكان الملحن أو الموزع الموسيقي صوغ كلمات القصيدة الغنائية الحديثة، فنجده يكتب مقاطع معينة تكون مركبة وباهتة ومستهلكة دون أن يعير شأناً لطول القصيدة وحجمها وشعريتها.

لا قيمة للكلمة ما دامت تناسب اللحن المعدّ ليكون على مقاس متطلبات الحس الجماهيري وذوقه

إذ لا قيمة للكلمة ما دامت تناسب اللحن المعدّ ليكون على مقاس متطلبات الحس الجماهيري وذوقه. وهذه واحدة من أهم المشكلات التي تواجه صناعة الأغنية العربية، وعدم تطورها بشكلٍ يكسر القوالب الاعتيادية السائدة، ويدفع بها نحو إعلاء قيمة الكلمة والشعر في البناء الغنائي. ثانيًا، مبدأ الخصوصية البيروقراطية. فلكل مطرب أو مغن طاقم عمل تقليدي مكون من شاعر وملحّن وموزع. فهم كفريق متجانس لهم باع طويل مع النجوم وشركات الإنتاج والتوزيع، وأسماؤهم مستهلكة إلى حد بعيد يستحيل تجاوزهم أو التعاون معهم كأقل تقدير. وإن أردتَ، ككاتب أو ملحن صاعد، طرح عملك الخاص، فإنّك ستواجه هذه الخصوصية البيروقراطيَّة.

وستطرحُ عليك شركات الإنتاج أسئلة منتقاة تنفي أي فرصة لك لتمرير أعمالك، مثل: هل لك أعمال سابقة مع فنانين آخرين؟ لمن تكتب؟ وفي أفضل الأحوال يطلبون منك أغنية كاملة تأليفًا وتلحينًا وتوزيعًا، والأفضلية لأغنية مغناة بصوت أحد المغنين ممن لديهم خامة صوت جيدة، عندها يقرر المنتج بعد سماع الأغنية الأخذ بها أو رفضها. طبعًا هذه العملية ستتطلب مبالغ نقدية عالية، نظرًا لاضطرارك للجوء إلى استئجار أحد استديوهات التسجيل الموسيقية، ودفع رسوم الأغنية كاملة لكل عنصر يدخل في صناعة الأغنية من تلحين وتوزيع.

تحتمل الأغنية الشعبية الحديثة أوجهًا عديدة للنقاش والتحليل، ويبقى الحسم بمستقبلها أمرًا مرهونًا بمعرفة الإمكانيات المهمشة التي يمكن استنتاجها وتطويرها وفق مسوغات نقدية بحتة وهادفة، تلجم هذا التسارع والتسطيح في شكل الأغنية العربية المعاصرة.

المساهمون