"إنّها تدور" لراشد عيسى: حماسةُ نقاشٍ وحِدّة مواجهة

25 ديسمبر 2020
"لسّه عم تسجّل" لسعيد البطل وغيّاث أيوب: كاميرا تدور وتلتقط وتوثِّق (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

يختار راشد عيسى، لـ"إنّها تدور" (دار موزاييك للدراسات والنشر، إسطنبول، الطبعة الأولى، 2020)، 54 مقالة له منشورة في صحفٍ ومواقع، تتناول أفلاماً وقضايا سينمائية، يغلب عليها السوريّ. أوّلها بحثٌ في "السينما الوثائقية السورية.. الخروج للشارع". صِغَرُ حجم النصوص أساسيّ. الإطالة غير مُحبَّبة. هذا مُهمّ. تكثيف القراءة النقدية مطلوبٌ. النقاش مفتوح على أفلام مستلّة من وقائع وتحدّيات، تنبثق من حراكٍ مدنيّ عفويّ في سورية، ومن غليان اجتماعي وسياسي في فلسطين ولبنان، تحديداً. التكثيف دعوة إلى قراءة واهتمامٍ بمضمونٍ يتعلّق بأفلامٍ، معظمها وثائقيّ. الحراك السوري واندلاع الحرب الأسديّة على مَدنيين وبيئاتٍ واجتماعٍ يُثيران نقاشاً دائماً، تُشارك أفلامٌ عدّة فيه، فتستكمل كلُّ قراءةٍ نقديةٍ لها النقاشَ: "المواجهات العسيرة التي خاضتها الكاميرا أفضت إلى أجمل الأفلام" (ص. 5).

البحثُ يستعيد تاريخاً ومفاصل وتجارب في سورية. يؤكّد أنّ الوثائقيّ السوري يواجِه النظام، والروائيّ يعكس نظرة النظام، رغم أنّ أفلاماً روائية، قليلة العدد أصلاً، تحفر في وجدان وتفكير وتأمّل، وترتبط بأناسٍ يعيشون تمزّق حياة، جرّاء حربٍ تُحطِّم كلّ شيء. أفلام عدّة يقرأها راشد عيسى في كتابةٍ معقودة على نقاشٍ دائم. تفكيك شيءٍ من تلك الأفلام يترافق ورغبته في منح الفيلم شكلاً آخر للمُشاهدة، وفي منح النصّ النقديّ مساحة قولٍ في الفيلم، وفي ما يقوله الفيلم، وفي مناخٍ يُحيط بالفيلم وبمخرجه، وبناس الفيلم والمخرج وبيئتهم.

الغلبة للفيلم في نصوص راشد عيسى، لكنّها (الغلبة) لن تحول دون تنبّه إلى وقائع وعيشٍ وأساليب حياة، ترويها أفلامٌ أو تُحيط بإنجازها. هذه يُدركها الكاتب، لعيشه إياها وقتاً قبل مغادرته دمشق إلى هجرة فرنسية. الهجرة استكمالٌ لمُشاهدةٍ ومتابعة وتأمّل، في نتاجٍ سينمائي وأحوال اجتماعية وثقافية، وفي مسائل تمسّ أفكاراً وتطلّعات ورغباتٍ. خروجه عن هَمّ سوريّ حاجةٌ إلى متنفّس، يصنعه نقدُ أفلامٍ لبنانية وفلسطينية، لن يخفّ "ثقلها" (الإيجابي والسلبي) عن تلك السورية، بمواضيعها واشتغالاتها وهواجس صانعيها. هذا حاصلٌ بسبب توق عيسى إلى سينما، يُشاهِد أفلامها ويتابع مساراتها، ويبقى على مسافةٍ منها، فهاجسُ كتابته نقداً "ثقافيٌّ سياسيٌّ اجتماعيٌّ"، إلى حدّ كبيرٍ. يُمهِّد لكتابه قائلاً إنّ مقالاته ليست تماماً عن السينما، بل عن "جدران العسكر والاحتلال والرقابة بأشكالها كلّها" (ص. 5).

 

 

السوريّ في الكتاب موزّع على نتاجٍ يوثِّق معظمُه، جمالياً، يوميات مواجهة آلة القتل الأسديّ، من دون تغاضٍ عن فعلٍ أسديّ في أفلامٍ محسوبة على النظام وأبواقه. ندرة أفلامٍ كهذه في "إنّها تدور" تعكس اهتمام الكاتب بنتاجٍ أهمّ، وبأفلامٍ تُناقض وقائع وحقائق. النتاج الأهمّ يصنعه مُقارعو النظام بتوثيقٍ سينمائيّ، يؤرشف لحظةً وحالة وانفعالاً ووقائع، مانحاً الأرشفة أبعاداً جمالية، تُخرِج التوثيق من كلاسيكية الفيلم التسجيلي (غالباً)، بإعطائه مفردات سينما وثائقية تمزج بين توثيق عادي ومنحى بصريّ في قراءة اللحظة، يتمرّن (المنحى البصريّ) في ابتكار صُورٍ تعكس وقائع، وفي اشتغالٍ فنّي يبوح بهَمٍّ فرديّ ـ جماعيّ.

حماسة الكتابة عن أفلامٍ، تتوافق وتأمّلات راشد عيسى، تتساوى وحِدّة مواجهته أفلاماً تروِّج أقوالاً وتزوّر أحداثاً وتُبرِّر أفعالاً، يصنعها النظام. حماسة تشي بتورّطٍ ثقافي إنساني أخلاقي للكاتب الفلسطيني، وحِدّة ترفض كلّ تغاضٍ عن ترويجٍ وتزوير وتبرير، في حربٍ يخوضها نظامٌ من أجل سلطة، وإنْ تتهالك السلطة بين يديه شيئاً فشيئاً. نظامٌ يُروِّج ويزوِّر ويُبرّر، بأبواقٍ يستعين بعض أصحابها بالسينما، فتُساجِلها مقالات قليلة بتعريتها أفلاماً، وبتفكيك بنيانها الترويجي والتزويري والتبريري.

مقالات "إنّها تدور" تنخرط في صُنع نتاجٍ ثقافي، يواجِه آلة قتلٍ وتنانين عنفٍ وتدمير؛ وتُكمِل، قراءةً وتحليلاً ونقاشاً، توثيقَ ما توثِّقه أفلامٌ وسجالاتٍ؛ وتحتوي، أحياناً، على معلومات ضرورية، وإنْ تكن قليلة، فورودها في سياق الكتابة يمنح القارئ شيئاً معرفياً.

لراشد عيسى آراءٌ في اشتغالات سينمائية، وفي كيفية معالجة السينمائيين وقائع وحكايات وأحداثاً ومسالك وأفكاراً، غير متوافقةٍ مع آراء آخرين. هذا لن يحول دون قراءة هادئة لمقالاتٍ تحرِّض، أحياناً، على مُشاهدة ـ إعادة مُشاهدة أفلامٍ مكتوب عنها. أما العنوان (إنّها تدور)، فيُثير تساؤلاً: أتكون الكاميرا مقصودةً به، أم أنّها الحياة ومساراتها، في أوضاعٍ ضاغطة وخانقة؟ للعنوان تفسير فرعيّ: "مقالات في السينما". إحالته إلى غير السينما امتدادٌ للسينما نفسها، فالسينما حياةٌ أيضاً. الكاميرا تدور. الكتابة تلتقط بعض مسام ما يدور. السينما تدور في أمكنتها وأدواتها وتقنياتها. الحياة تدور، رغم انهماك نظامٍ (سياسي واجتماعي وثقافي) في تعطيلها، بحربٍ تُدمِّر فيتوقف الدوران، لكنّ الكاميرا "لسّه عم تسجّل" (وثائقي لسعيد البطل وغيّاث أيوب، 2018).

لتلك الحرب أنماطٌ. أفلامُ الكتاب نابعةٌ من أحوال بلدانٍ تعاني حروباً، متمثّلة بأزماتٍ وقلاقل واحتلالات وعنفٍ متنوّع، يُشارك "إنّها تدور" في توثيقها ومناقشتها أيضاً.

المساهمون