حين انطلقت إذاعة القدس في مارس/آذار عام 1936 عكست مشهداً غنائياً وموسيقيا بالغ الثراء، بدأت إرهاصاته في العقدين الأولين من القرن العشرين. فعلى أرض فلسطين عموماً، وفي مدينة القدس على وجه الخصوص، وقبل مدة طويلة من قيام دولة الاحتلال، وجد الغناء تربة خصبة، وحاضنة شعبية كبيرة من محبي الطرب العربي. أنتج المجتمع الفلسطيني فنانين مهمّين، وصارت مدينة القدس مقصداً لكبار المطربين والعازفين المصريين والشاميين.
لا تحب دولة الاحتلال أي حديث عن النشاط الفني قبل النكبة، ولا عن الغناء في القدس قبل هزيمة 1967. كل تسجيل قديم، وكل تذكرة حفل مطبوعة، وكل خبر فني ورد في صحيفة أو مجلة، تمثل وثيقة حضارية وإنسانية تُذكر بأصحاب الأرض وقضيتهم، وبأنهم عاشوا هنا، حتى وقت قريب من دون احتلال، ولا مهاجرين، ولا "إسرائيل". فالغناء العربي يولد وينمو على أرض عربية، ولا يتذوقه إلا جمهور عربي.
في كتابه المرجعي "القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية"، يسرد الموسيقي والمؤرخ الفلسطيني واصف جوهرية (1897- 1972) أسماء كبار الفنانين الذين شاركوا في انطلاقة إذاعة القدس، فيشير إلى إبراهيم عبد العال، ومحمد عطية، وإسكندر الفلاس، وجليل رُكب، ورامز الزاغة، وكاظم السباسي، وفهد النجار، وميلاد فرح، وتوفيق جوهرية، وروحي الخماش، وآرتين سانتورجي، وباسيل ثروت، ومحمد عبد الكريم أمير البزق.
ويوضح جوهرية أن رئاسة القسم الفني بالإذاعة كانت للفنان يحيى اللبابيدي والشاعر إبراهيم طوقان. ويروي أن توقيت حفل افتتاح الإذاعة تصادف مع وجود المطرب المصري الشيخ أمين حسنين وفرقته، فترأس الرجل فقرات الافتتاح عزفاً وغناء.
ويضيف جوهرية: "ضمّت الفرقة كلاً من إبراهيم عبد العال، والد عازف الكمان عبود عبد العال، عازفاً على القانون، ومحمد عطية عازف القانون المصري، ويحيى السعودي المطرب وعازف العود، الذي أصبح في ما بعد رئيس الفرقة الوترية في الإذاعة، وتوفيق جوهرية عازف الناي. كان وجود دار الإذاعة الفلسطينية نعمة جزيلة، فقد أصبحت القدس محجّة الفنانين من الأقطار العربية".
نشأت إذاعة القدس برعاية سلطة الانتداب البريطاني. وكانت تبث بثلاث لغات هي العربية والإنكليزية والعبرية. استطاع الإذاعيون والموسيقيون والمطربون العرب، تحت رئاسة الشاعر إبراهيم طوقان، أن يحولوا القسم العربي في الإذاعة إلى صوت لفلسطين ومنبر لترسيخ الهوية العربية، وهو ما لم تقبل به سلطة الانتداب البريطاني، التي عملت على تقليص ساعات البث العربية، ثم اتهمت طوقان بالفتنة والتحريض، وأقالته من منصبه عام 1940.
ومع أحداث النكبة عام 1948، احتلت القوات الإسرائيلية مبنى الإذاعة، لكن بعض الموظفين حمل أجهزة البث إلى رام الله، لتواصل الإذاعة إرسالها تحت إشراف الحكومة الأردنية، ولتستمر صوتاً لفلسطين حتى احتلال الضفة الغربية عقب هزيمة يونيو/حزيران 1967.
مثلت مدينة القدس دوماً موضع جذب لكبار المطربين المصريين. وبعد أن شارك في افتتاح إذاعتها، بقي الشيخ أمين حسنين مقيماً في القدس نحو عامين. وشهدت المدينة زيارات لمحمد عبد الوهاب وصالح عبد الحي، وكانت إذاعتها شاهدة على انطلاقة فريد الأطرش وأسمهان. كما حمل أثيرها أصوات بعض كبار القراء المصريين، وفي مقدمتهم الشيخ أبو العينين شعيشع.
ولعل أهم الأحداث الفنية في تاريخ القدس وعموم فلسطين تمثلت في المحافل التي أقامتها هناك مطربة العرب الكبرى أم كلثوم. والمعروف أنها زارت فلسطين مرتين، أولاهما عام 1931، والأخرى عام 1935. لكن بعض قدامى مؤرخي الفن في فلسطين يتكلمون عن زيارة كلثومية أواخر العشرينيات. وعنها يقول الباحث في التراث الفلسطيني أحمد مروات إن الآنسة أم كلثوم تلقت دعوة لزيارة حيفا من شباب نادي الرابطة العربي عام 1928، ولبت الدعوة بدايات العام 1929. وفي بداية الرحلة، غنت أم كلثوم على مسرح سينما عدن بشارع مأمن الله في القدس.
أما المؤرخ واصف جوهرية، فحضر الحفل ووصفه في مذكراته قائلا: "كان الإقبال عليها شديداً من جانب الأهلين، يعجز القلم عن وصفه، وكان الوقوف من الحضور يوازي الجالسين على المقاعد، وأصبح الجميع وكأنهم في غيبوبة من شدة الطرب، فقدروا حشمتها ورخامة صوتها كل التقدير، وكانت ليلة لأبناء مدينة القدس من ليالي العمر التي لم يسبق لها مثيل.. تجلت كروانة الشرق وأبدعت أيما ابداع لما شاهدته من اصطفاء وتقدير وحب الشعب لها، الأمر الذي أفقدها وعيها حتى مزّقت منديلها الذي كان بين يديها من شدة العواطف، وإني وغيري لن ننسى أغنيتها المحببة لها آنذاك ومطلعها: وحقك أنت المنى والطلب".
وكانت زيارة عام 1931 ضمن جولة لأم كلثوم في بلاد الشام، وثق لها الباحث اللبناني محمود الزيباوي، معتمداً على تغطية مجلة الصباح القاهرية، التي رافقت أم كلثوم في جولتها وغطتها تغطية شاملة. وأعلنت في 28 أغسطس/آب عن الاتفاق الذي تمّ أخيراً بين "الوجيه السوري المعروف" أحمد أفندي الجاك، وأم كلثوم، لإحياء سلسلة من الحفلات في سورية ولبنان وفلسطين.
تقول صحيفة "الصباح": "أبحرت أم كلثوم على متن الباخرة الأميركية "أكس كمبيون" يوم السبت 29 أغسطس، ورافقها في رحلتها شقيقها خالد أفندي وأعضاء تختها الذي ضمّ الملحن والعواد محمد القصبجي، القانونجي محمد العقاد، والكمنجاتي كريم حلمي.. وكان في وداعها جمع كبير من رجال الأدب والفن.. تأثرت أم كلثوم عند إقلاع الباخرة، وبكت من شدة الانفعال.. استقبل العاملون في الباخرة الضيفة الكبيرة بحفاوة بالغة، ورفعوا صورها في غرف القبطان والعاملين، وساروا في جو هادئ، وبلغوا ميناء يافا يوم الأحد.. رحّب جمع من أعيان يافا بالنجمة القادمة من مصر، وأقاموا حفلا على شرفها، بعدها واصلت الباخرة رحلتها، وحطّت في حيفا.. حيث كان في انتظار أم كلثوم جمع آخر من الأعيان والوجهاء والأدباء.. كانت تلك الوقفات محطات انتظار في الطريق إلى لبنان وسوريا".
وبعد إحياء عدد من الحفلات في سورية، توجهت أم كلثوم إلى حيفا حيث استقبلتها الكشافة الإسلامية، ورئيس بلدية حيفا حسن بك شكري، ووجهاء المدينة، وأحيت حفلتين أقبل عليهما الناس إقبالاً عظيماً. ثم قدّمت حفلتين على مسرح مدرسة الفرير في يافا، وختمت جولتها بحفلتين في القدس، ثم عادت مع فرقتها إلى وطنها، ووصلت إلى القاهرة مساء 12 أكتوبر/تشرين الأول.
وتصف صحيفة "الكرمل" حالة الانفعال والتجاوب في حيفا عند زيارة أم كلثوم، إذ قالت إن أحد المواطنين باع حملة من الطحين اقتناها لبيته كي يتمكن من المشاركة في الحفلة. ويؤكد مؤرخو فلسطين أن أم كلثوم حازت لقبها الأشهر، "كوكب الشرق"، أثناء تقديمها حفلة داخل مقهى الشرق في حيفا؛ إذ إن إحدى المشاركات بالحفل، سيدة من طيرة الكرمل تدعى أم فؤاد، انتابتها مشاعر النشوة عندما غنت أم كلثوم "أفديه إن حفظ الهوى"، فصرخت قائلا: "أم كلثوم أنت كوكب الشرق".
تناقلت الصحافة هتاف السيدة الفلسطينية، فحملت أم كلثوم اللقب إلى الأبد. واقعة يؤكدها عدد من الباحثين في تاريخ النشاط الفني في فلسطين، من بينهم الكاتب سليمان الناطور، والفنان المسرحي المقدسي إسماعيل الدباغ، والكاتب الفلسطيني حنا أبو حنا.
الزيارة الثالثة لفلسطين كانت في مايو/أيار 1935، وتوثقها صورة إعلان دعائي لمحافل أم كلثوم في القدس ويافا وحيفا. أحيت السيدة ليلتين بكل مدينة، وحمل الإعلان عنواناً يقول: "أعياد الطرب والسرور في مدن فلسطين العامرة. بتشريف المطربة الفنانة بلبلة الشرق والأقطار العربية". ويوثق إعلان آخر لحفل أم كلثوم على مسرح أوبرا المغربي، بمدينة يافا: "كوكب الشرق تطربكم بصوتها الشجي.. احجزوا تذاكركم من محلات أحمد الجندي ورستم أبو غزالة".
يمثل هذا التاريخ المتراكم جزءاً مهماً من المقاومة الحضارية للشعب الفلسطيني، فالتفاصيل والوقائع تنسف الكذبة الكبيرة "أرض بلا شعب"، إحدى الأساطير المؤسسة للكيان الصهيوني، كما تنسف الصورة المشوهة التي شاعت عن العرب، بعد أن صورتهم الدعاية الصهيونية باعتبارهم مجموعات من الهمج أو البدو الذين لم يعرفوا فناً ولا غناء ولا موسيقى.. فتأتي تسجيلات يحيى السعودي، ووثائق إذاعة القدس، وإعلانات زيارة أم كلثوم، لتقول للعالم: "كان الطرب هنا ولم تكن إسرائيل".