حال الموسيقيين المحترفين ليست الأحسن هذه الأيام. الإغلاق في وجه تفشّي الوباء، قد أصاب نشاطهم ورزقهم، وما يعتقده كثير منهم سببَ وجودهم، في مقتل. المستقلون منهم، أي من لا يعملون في وظيفة موسيقية تمولها جهة حكومية، كالعزف في الفرق الرسمية ودور الأوبرا، وإنما يعتمدون على إحياء الحفلات والسفر في جولات وإصدار الألبومات، قد باتوا أسرى المنازل إلى أجلٍ غير مسمى، ينتظرون عودة الحياة إلى سابق عهدها. أما الموظفون، وإن بقوا أكثر أمناً من الناحية المادية، إلا أنهم كالآخرين، أو معظمهم، افتراضاً على الأقل، يتوقون إلى العمل.
والعمل بالنسبة للفنان ليس كسباً للرزق فقط أو اعتلاءً لمنزلة اجتماعية، وإنما هو أيضاً حاجة عاطفية. الفن، بوصفه تعبيراً عن الذات، إنما يحتاج إلى الآخر القارئ، المستمع أو المشاهد. في ما يتعلق بالأداء الموسيقي، الآخر هو الجمهور، أفضله ذلك الحيّ منه، أي من يشغل مقاعد المسارح والقاعات أثناء إحياء الحفلات. يصفق عند دخول المغني أو العازف، وإثر انتهائه من الأداء. التواصل بين الفنان المؤدي والجمهور الحاضر والمصغي، لهو تجربة إنسانية، لها دوافعها النفسية والعاطفية وأبعادها الروحية لدى الطرفين، علاوة على مكاسبها وآثارها الآنية المباشرة، واللاحقة المستمرة والباقية.
من هنا، يبدو المشتغلون في الأداء الموسيقي، بصرف النظر عن حاجتهم المادية أولاً، والروحية ثانياً، في سعيٍ دؤوب، يأتي بحلول مبتكرة من أجل إيجاد صيغ تناسب وتساير قواعد الصحة العامة التي فرضها التصدي لوباء كوفيد-19، عساها تُعيدهم بصورة أو بأخرى إلى أحضان جمهورهم. عديد تلك الحلول أتاحها الإنترنت عبر منصّات السوشيال ميديا، من خلال خدمة الدفق الحي، Live streaming service، حيث يقبع كلٌّ في بيته، عازفاً أو مُنصتاً.
أعضاء فرقة سويس روماند Orchestre de la Suisse Romande الموسيقية الأوركسترالية العريقة، ومقرّها مدينة جنيف السويسرية، كان لهم رأي آخر ومقاربة مختلفة. إذ إنهم، عوضاً عن السفر إلى الجمهور في بحر رقمي من آحاد وأصفار، آثروا المحافظة على التجربة الحية في التواصل مع المتلقّي، وذلك بتفصيلها حسب قياسات قوانين التباعد المفروضة، ومن ثم إضفاء بعدٍ اجتماعي حيوي عليها، يُنزل العرض عن خشبة المسرح ويأخذه، ليس إلى غرفة النوم أو الجلوس، بل إلى مرافق المدينة.
تحت مسمى "حفلة موسيقية واحد لواحد" one-to-one concert، تُعلن الفرقة من على موقعها الرقمي، عن موعد إقامة حفل سيُحييه مُنفرداً واحدٌ من أعضائها أمام جمهورٍ محدودٍ، بمستمعٍ واحد، في دكانٍ لبيع الزهور أو الملابس.. مصنع صغير أو ورشة حرف يدوية. مدة الحفل عشر دقائق فقط، لا يتم الإعلان عن الوجبة الموسيقية المقدمة في خلاله. أما الحاضر، فيُختار من بين لائحة انتظار يجري التسابق لملئها على الإنترنت.
إلى حين البدء بتخفيف جزئي ومرحلي للحظر المفروض على إقامة الحفلات الموسيقية في سويسرا، وذلك اعتباراً من منتصف هذا الشهر وحتى آخره، يجد القائمون على أوركسترا روماند والعاملون فيها في مبادرة "حفلة موسيقية واحد لواحد" وسيلة لإعادة الاتصال بجمهور الموسيقى الكلاسيكية، وذلك عبر نهج أكثر حميمية كما يأملون. مع ذلك، من شأن المبادرة، أن تطرح تساؤلات نقدية، فنية واجتماعية، تستحق الوقوف عندها والتأمل المُمعن فيها.
حالة انعدام الكتلة البشرية مثلاً، تبدو هنا كما لو أصابت طرفي المعادلة السمعية. في العادة، يعزف أعضاء الفرق الموسيقية بشكل جماعي. حتى الأوركسترا نفسها يجري توزيع العازفين فيها على أقسام؛ آلة الكمان قسمان أول وثان، الفيولا قسم والتشيلو قسم والكونتراباص قسم آخر، يشكّلون كلّهم مجتمعين مجموعة الوتريات. ثم هنالك قسم النفخيات الخشبية من كلارينيت وأوبوا وباصون، فالهوائية كالفلوت، والنحاسية كأبواق الترومبيت والترومبون والهورن، إضافة إلى التوبا، انتهاءً بفريق الإيقاع، الذي يضم الطبول والصنوج، وغيرها من فروع القرع والنقر والضرب.
حين يهم عازف أوركسترا بالعزف وحيداً، يفقد الكتلة التي اعتاد الانضواء ضمنها، إذ لم تكن آلته إلا خيطاً من خيوط نسيجها، فلا يُسمع صوتها إلا من خلال جسم المجموعة، اللهم إن لم يضطلع بمهمة عزف مقطع منفرد، الأمر الذي يحدث مرّات كثيرة، وإن كان تنفيذ تلك المقاطع يقع على عاتق رؤساء الأقسام. لا يعني ذلك، بأي حال، أن عازف الأوركسترا لا يقوى على العزف وحيداً، إنما هي طبيعة التجربة الأدائية، التي ستختلف بشكل جوهري.
من الجهة المقابلة، لم يعتد المستمع هو الآخر أن يجلس وحيداً في حضرة العازف. فيما عدا بالطبع، تجربة السماع المنزلية أو من خلال سماعة تبث موسيقى مسجّلة. لذا، يفقد الحاضر بدوره الكتلة البشرية التي تجعل الجمهور مؤتلفاً من الناحية الشعورية والنفسية، مولّفاً مستشعراته الحسية نحو الخشبة والصوت الصادر عنها، وما يُولّد ذلك من تعاطف بين المستمعين، فتتناغم أرواحهم في حال وجد جماعية.
هو انكشاف، إذن، لمدة عشر دقائق، يلمّ بكل من المؤدي والمتلقي. بالنسبة للأول، يفقد الفريق الذي من خلاله اختبر منصة الأداء، وها هو الآن يعزف وحيداً أمام مستمع وحيد، في وضع أشبه بالاختبار، أو ما يُعرف لدى المشتغلين في فنون الأداء بـ "فحص استماع" Audition؛ الأمر الذي من شأنه أن يُغيّر من تجربة العزف من الناحية النفسية، قد يجعلها أشدّ تشنّجاً وأكثر تحفّظاً، وأقرب إلى امتحانٍ يجري أمام عيون فاحصة وآذان متأهبة مراقبة.
المستمع، بدوره، يشعر بالانكشاف؛ إذ إنه يجد نفسه في مواجهة موسيقي محترف تحت سقف منخفض يبعد عنه أمتاراً قليلة. قد يتعين عليه، من باب اللياقة الاجتماعية، أن يتفاعل مع شخص العازف وليس فقط مع موسيقاه؛ إذ ينبغي له، ربما، أن يُدلي برأي حصيف أو إطراء لطيف بُعيد انتهاء الحفل، هو الذي لم يُحَط علماً أصلاً باسم المقطوعة التي أتى لسماعها.
من هنا وبحسب شهادات كل من العازفين والحاضرين، انسلّ العديد من المستمعين خارجاً عقب الحفل من دون التحدث مع العازف، ولأجل هذا، علّق أحد المستمعين بأنه أحس بشيء من الرهبة أثناء الدقائق العشر التي قضاها وحيداً برفقة الفنان.
من منظور آخر، تكمن فرادة المبادرة التي أطلقتها فرقة روماند، بأنها أعادت الحياة إلى المدينة بصفتها حاضنَ النشاطات الفنية، بإعادة إحيائها طقس ارتياد الحفل، تكبّد الذهاب من مكان إلى مكان، حالٌ كاد الناس أن ينسوها هذه الأيام.