أم كلثوم... 100 عام على صوتها

07 فبراير 2024
أم كلثوم في باريس عام 1967 (فرانس برس)
+ الخط -

هذه المرّة، يختلف الاحتفال بذكرى رحيل أم كلثوم؛ فمنذ قرن كامل، في عام 1924، سجلت الفتاة القادمة إلى القاهرة من أعماق الريف المصري أول أسطوانة بصوتها، لتغدو هذه النقطة المفصلية الخيط الأول للإمساك بصوت هذه المطربة الجبارة. وعلى مدار مئة عام، تعامل العالم العربي مع أم كلثوم باعتبارها منحة سماوية، وموهبة استثنائية، ونعمة.

لكن هذه النعمة، لم تكن لتتم لولا أن ظهور أم كلثوم تواكب مع القدرة على تسجيل الصوت البشري. ولو لم تكن الأسطوانة وأجهزة الفونوغراف ثم الشرائط بأنواعها، لكانت أم كلثوم مجرد اسم يُذكر في بعض كتب التاريخ، شأنها شأن سلَّامة وعزة الميلاء وألمظ. من هنا، تكمن أهمية مئوية التسجيلات، فبدءاً من هذا العام، صارت الجماهير تمتلك صوت الست منذ قرن كامل، كان كافياً لإثبات أن تكرار نموذج أم كلثوم ينتمي إلى عام الخرافة والمستحيل. وأيضاً، تمثل المئوية فرصة لمراجعة موقف المؤسسات الثقافية الرسمية من هذا الإرث الفني الضخم، الذي لم يحظ، إلى اليوم، بما يستحق من جمع وحفظ وأرشفة ودراسة، ولا يزال متروكاً للهواة والمفتونين بالصوت الأجلّ.

يرجّح أكثر مؤرخي المسيرة الكلثومية أن تكون قصيدة "الصب تفضحه عيونه" التي نظمها أحمد رامي، ولحنها الشيخ أبو العلا محمد، هي التسجيل الأول لأم كلثوم، وكان لشركة "جرامفون".

ومع الإقرار بصعوبة الجزم بأولية هذا التسجيل، إلا أن الاتفاق منعقد على أن عام 1924 هو بداية تعامل أم كلثوم مع شركات الأسطوانات. نعم، في العام نفسه سجلت عدة أغنيات، منها: "خايف يكون حبك ليا شفقة عليا"، من كلمات رامي وألحان أحمد صبري النجريدي، وأيضاً "قال إيه حلف ما يكلمنيش" لرامي ومحمد القصبجي.

لكن، في كل الأحوال، لم يُشر أي مصدر إلى أي تسجيل كلثومي خلال عام 1923، وهو عام انتقال أم كلثوم وأسرتها من قريتها إلى القاهرة، حيث انشغلت بترتيب حياتها ومحل سكنها الذي بدأ في لوكاندات وسط المدينة، قبل أن تنتقل إلى أكثر من شقة مؤجرة. كذلك فإنها كانت في بدايات صعودها، وتعرّف الأوساط الفنية القاهرة إلى موهبتها، وكل هذا يفسر تأخر التسجيل للشركات إلى عام 1924.

بسبب النضج الصوتي والأداء الذي يظهر في أسطوانة "الصب تفضحه عيونه"، تشكك عدد من الباحثين في تاريخ التسجيل، أو اعتبره يثير إشكالات حول تسجيلات أخرى جاءت بعده، ولم يكن صوت أم كلثوم فيها بهذا المستوى من النضج، بل اتسم بقدر من الحدة، مع "خنفة" كانت سائدة في الغنائي النسائي حينها. وقد اعتبر فيكتور سحاب أن هذا التسجيل يرجح من احتمالات تدخل شركات الإسطوانات بإسراع التسجيلات أو إبطائها، ليناسب طول زمن الأسطوانة.

والغالب أن هذه الإشكالات تثور بسبب الإصرار على تقسيم مراحل صوت أم كلثوم أو تطور أدائها تقسيماً واضحاً بحد قاطع فاصل، يكون الصوت قبله في حال، ويكون بعده في حال مغاير. لكن التأمل الطويل لتسجيلات أم كلثوم في سنواتها الأولى يوضح أن "الحدة" و"الخنفة" و"ترجيف الصوت" اعترت بعض التسجيلات، وغابت عن أخرى متزامنة.

وإجمالاً، وكحكم أغلبي، كانت هذه الحدة تظهر في "الطقاطيق"، مثل "قال إيه حلف ما يكلمنيش"، و"خايف يكون حبك ليا" و"بحبك وأنت مش داري" و"يا كروان والنبي سلم". لكن هذه "العيوب" غابت عن معظم ما غنّته أم كلثوم من قصائد الشيخ أبو العلا، حتى تلك التي غنتها في أول عامين أو ثلاثة بعد استقرارها في القاهرة، ومنها هذا التسجيل الأول "الصب تفضحه عيونه" وكذلك "وحقك أنت المنى والطلب".

ومن المعروف أن أم كلثوم، قبل الانتقال إلى القاهرة، لم تكن تغني إلا القصائد والموشحات الدينية، ولم تعرف "الطقطوقة" إلا بعد تعرفها على أحمد رامي، والأغلب أنها تأثرت بأداء مطربات القاهرة لهذا اللون من الغناء، الذي كان يتسم بالخفة النصية، ويكون وسيلة لاستعراض "مهارات" الترجيف، وبلوغ المناطق الصوتية الحادة. ولم تكن أم كلثوم تستخدم هذه "التقنيات" في أداء القصائد والموشحات، المتسمة بالجلال نصاً ولحناً، والتي يمنحها الأداء الوقور مزيداً من الهيبة والاحترام. وعموماً، لا خلاف على أن تلك "الملاحظات" قد اختفت تماماً ونهائياً من صوت أم كلثوم ومن أدائها قبل أن ينتهي عقد العشرينيات.

أسفرت هذه الفترة الممتدة بين عامي 1924 و1929 عن قرابة 50 تسجيلاً، بين قصائد ومونولوجات وطقاطيق، للملحنين الثلاثة: أبو العلا محمد، ومحمد القصبجي، وأحمد صبري النجريدي، وقصيدة يُنسب لحنها إلى عبده الحمولي، هي "أراك عصي الدمع".

لم تكن هذه الثروة الهائلة لتصل إلى الناس اليوم، لولا إمساكها بالتسجيل، الذي وضع بين أيدينا خريطة تكاد تكون مكتملة لتطور صوت أم كلثوم في بداياتها، وكشف عن كثير من الأسباب المنطقية التي حملها هذا الصوت، واخترق بها قلوب الجماهير في هذا الوقت المبكر. شهد عقد العشرينيات الإقرار الكامل بسيادة أم كلثوم على عرش الغناء في مصر وبلاد العرب، بعد منافسة لم تدم أكثر من 4 سنوات بينها وبين الكبيرتين، منيرة المهدية وفتحية أحمد.

لكن بسبب القدرة الاستيعابية المحدودة للأسطوانة، وصعوبة بل انعدام إمكانات التسجيلات المطولة، ضاع كل ما غنته أمّ كلثوم من محافل في حقبة العشرينيات، فمعظم الأغنيات التي سجلتها على أسطوانات كانت تؤديها على المسرح، وبزمن أطول، وتصرفات أكثر، بما في ذلك قصائد الشيخ أبو العلا، ولا ريب أن أداءها للأغنية الواحدة كان يختلف أو يتفاوت من وصلة إلى أخرى، لكننا لا نعرف مقدار تصرفها في اللحن، أو حجم ارتجالها فيه.

لم يكن هناك سبيل للتسجيل إلا عبر شركة تنتج أسطوانة مدتها بضع دقائق. وقد اختارت أم كلثوم مبكراً أن يكون تعاونها مع شركتين، لا شركة واحدة، فكانت كل تسجيلات هذه السنوات من نصيب "جرامفون" و"أوديون". ولا ريب أن هذا السلوك من المطربة الصاعدة حينها يمثل إدراكاً عميقاً منها بقيمتها الفنية، وحرصاً مبكراً على أن تكون دائماً الشخصية المركزية التي يدور حولها متعددون من الكتّاب أو الملحنين أو منتجي الإسطوانات.

دخلت أم كلثوم عقد الثلاثينيات بصوت بلغ أوج قوته وصفائه وتهذيبه، وبأداء في أعلى مستوى يمكن أن يدرك تطريباً وتعبيراً وإحكاماً. وبالتزامن، شهدت عملية التسجيل تطورات بالغة الأهمية، من أبرزها انتشار أجهزة الفونوغراف بدرجة أكبر، واتساع مساحة الإقبال على شراء الأسطوانات عموماً، وأسطوانات أم كلثوم على وجه الخصوص، صارت "الآنسة" أشبه بالأبطال القوميين، أو أساطير المخيال الشعبي.

وفي أهم تطورات هذا العقد، انتباه أم كلثوم إلى قالب "الدور"، الذي دخلت عالمه عبر الملحن داود حسني، صاحب الاسم والتاريخ. في أواخر العشرينيات انقطع التعاون بين النجريدي وأم كلثوم، وعام 1927 مات الشيخ أبو العلا، ولم يبقَ حول أم كلثوم من الملحنين إلا القصبجي، فبدأت في السنوات الأولى من الثلاثينيات بتجديد فريق ملحنيها، وبالتزامن مع داود حسني، دخل الشيخ زكريا أحمد على الخط الكلثومي، وانصبّ معظم جهده على "الدور" و"الطقطوقة". ومع بدء النصف الثاني من هذا العقد، انضم رياض السنباطي إلى الفريق التلحيني الكلثومي، ليكون بعد ذلك صاحب الرحلة الأطول مع صوت كوكب الغناء.

ولعل أبرز أحداث العقد الثالث يتمثل بظهور الإذاعة الحكومية المصرية عام 1934، فقد أتاحت للجماهير الاستماع إلى أعلام الغناء، وفي مقدمتهم أم كلثوم، من خلال تقديم وصلات غنائية تطول مدتها كثيراً عن زمن الأسطوانة المحدود. ثم جاء التطور الأبرز بين الإذاعة وأم كلثوم، بالاتفاق على بثّ حفل غنائي شهري، مكون من عدة وصلات. كانت لحظة مفصلية في تاريخ أم كلثوم، وفي تاريخ الإذاعة المصرية، وفي تاريخ الجماهير العربية.

وإذا كان هذا العقد قد شهد بدء اهتمام أم كلثوم بفن "الدور"، فقد شهد أيضاً انتهاء علاقتها بالأدوار، بعد أن غنّت آخرها "عادت ليالي الهنا" من ألحان الشيخ زكريا أحمد عام 1937، وقد سبقه داود حسني بتقديم دوره الأخير "يا عين دموعك بالغرام تشفيني" للمطربة الكبيرة، عام 1932. اكتفت أم كلثوم بـ19 دوراً صاغها داود وزكريا، وغنتها كلّها أو جلّها في وصلات جماهيرية، لم يستطع أحد أن يمسكها بالتسجيل، فأخذت مكانها في ركن المفقودات الأبدية.

لا شك في أن نسبة المفقود من تراث أم كلثوم تقلصت تدريجياً في العقود التالية، مع سهولة التسجيل وانتشار أجهزته. لكن ظلت مهمة جمع هذا التراث وحفظه وأرشفته ودراسته مهمة فردية، يقوم عليها الهواة، من دون أي تدخل حكومي أو مؤسسي. أنجز الهواة خطوات تستحق الإشادة والتقدير، في البحث والجمع والتحقق من المعلومات والتواريخ.

وقصرت المؤسسات الرسمية جميعاً، وفي مقدمتها شركة "صوت القاهرة" التي لا تزال تصر على أنها صاحب الحق المادي في تراث كوكب الغناء، مع إصرار موازٍ على إصدار ذات التسجيلات المبتورة والممنتجة والخالية من أية بيانات، مع الاكتفاء بمحفل واحد للأغنية، حتى لو توافر لها 30 محفلاً مختلفاً ومنشوراً على مواقع التواصل.

يطالب جمهور أم كلثوم العريض بتدارك هذا التقصير المستمر منذ عقود، وإلا تحولت ذكرى تسجيل الأسطوانة الأولى إلى مئوية للصوت والإهمال معاً، فمن غير المعقول أن تضيع تسجيلات جماهيرية لغناء السيدة في الستينيات والسبعينيات، بالرغم من أن أسطوانتها الأولى بين أيدينا، وصوتها المسجل من مئة عام يغرد "الصب تفضحه عيونه".

المساهمون