يضُج مرسم تجوال للفُنون، في مدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزة، بأطفال يُشكلون الصلصال، ويتدربون على النحت الاحترافي على أيدي فنانين فلسطينيين، في مشهد يعكس رغبة هؤلاء بتجاوز واقعهم الصعب، وترجمته إلى قطع فنية ملموسة.
ويعتبر النحت من أصعب الفنون التشكيلية، إلا أنّ الأطفال اختاروا التدرب عليه وإتقانه، أملاً في إثبات ذواتهم وقدرتهم على صناعة القطع الفنية، والتي يتحدون من خلالها واقعهم الصعب الذي خلقه الاحتلال الإسرائيلي، والذي يُحاصر قطاع غزة منذ نحو 16 عاماً، في محاولة لقتل الحياة.
وينخرط الأطفال مع مدربيهم في المُبادرة المجانية التي أطلقها الفنان مؤمن خليفة، وصديقه الفنان محمد أبو حشيش، داخل مرسمهم وبجهود فردية، في مُحاولة منهما لمُساعدة الأطفال على إظهار إبداعاتهم وطاقاتهم، وخلق واقع أفضل لهم.
ويضم النشاط نحو 17 طفلًا وطفلة من جيران المرسم، وجدوا في أنفسهم القدرة على التعلم، والاستفادة من التدريبات، ويحولون فيها الصلصال الصم إلى أشكال فنية تبوح بالجمال، ويعكسون من خلالها حبهم للحياة، وانطلاقهم نحو المستقبل.
الاندماج في التشكيل بدا واضحًا على ملامح الطفلة شام عمار (15 عامًا)، والتي اختارت خوض تجربة دورة النحت، لعدة أسباب وفي مقدمتها تحدي ذاتها، على اعتبار أن هذا الفن من أصعب الفنون التشكيلية، إلى جانب تعلم أمور جديدة يُمكن أن تستفيد منها في المستقبل.
وصنعت الطفلة، وإلى جانبها عدد من زملائها وزميلاتها، فاكهة الكمثرى، وكلب البحر، وهي قطع بحاجة لتركيز عالٍ، إلى جانب الكثير من التفاصيل الدقيقة، وتنسيق الزوايا كي تخرج بشكل متكامل ومتوازن من مختلف الجهات.
وتقول عمار لـ"العربي الجديد" إنها تعرفت عبر ورشة النحت على القواعد الأساسية، والتي تتم خلالها صناعة القطعة الفنية عبر مجموعة مراحل، تصل في النهاية للخروج بقطع مُميزة تنبض بالحياة، مُعبرة عن سعادتها لالتحاقها بالدورة ونيتها مواصلة التعلم حتى الاحتراف.
ويبدو المكان المُخصص لترجمة القواعد النظرية إلى عملية، أشبه بخلية نحل، ينشغل كل طفل فيها بتشكيل الصلصال وفق الهدف الذي وضعه، وقد صنع الأطفال بأياديهم الصغيرة مختلف أشكال الفواكه والخضار.
ويقول الفنان محمد أبو حشيش، إن النشاط الفني يتم داخل مرسم خاص، تم تخصيصه بجهود فردية، بهدف خلق مساحة تتيح للأطفال التعلم واكتشاف ذواتهم بتدخل من بعض الفنانين، فيما يضم المرسم كذلك عقد ورش فنية تتم فيها استضافة الفنانين والشخصيات، لخلق حوارات ذات علاقة بالثقافة والفن.
ويوضح أبو حشيش لـ "العربي الجديد" أن النشاط يستهدف عددًا من الأطفال جيران المركز، والذين يترددون على المكان، وأثبتوا جدارة وجدية من خلال اللقاء الأول، حيث ظهر مدى شغفهم ودافعيتهم للتعلم، في الورشة والتي تستمر لمدة 15 ساعة بمُعدل 3 ساعات يوميًا.
ويتعلم الأطفال من خلال الورشة أُسس ومبادئ التشكيل بالصلصال والقولبة والنمذجة والنحت بالطين وصناعة نماذج من الجبس، وفق تعبير أبو حشيش، فيما تمر عملية صناعة القطعة الفنية بعدة مراحل ومحاور، تبدأ بتجهيز "اسكتشات" لرسم القطعة المطلوبة، ومن ثم تجهيز الهيكل الذي ستُبنى عليه المنحوتة، وتشكيلها بالصلصال، وبعد ذلك يتم تحويلها من منحوت إلى جبس عبر "القولبة" وهو صناعة قالب عنها وصبها وتحويلها إلى قطعة مصنوعة من الجبس.
أما في ما يتعلق بتحويل المرسم الخاص به إلى الأنشطة الفنية، يوضح الفنان مؤمن خليفة لـ "العربي الجديد"، أن مدينة خان يونس تفتقر للأماكن والمساحات الفنية والتي تتيح للفنانين التعبير عن أنفسهم، ما دفعه هو وزميله أبو حشيش إلى فتح المساحة الخاصة، لتصبح مكانًا آمناً لممارسة نشاطهم الفني والتعبير عن القضايا المجتمعية، والنهوض بالمجتمع من خلال الفن.
ويبين خليفة لـ "العربي الجديد" أن دورة النحت، وغيرها من الدورات التي يتم تنظيمها داخل المرسم، (لا يتبع لأي توجهات أو جهات رسمية)، تستهدف فئة الأطفال من 14 حتى 18 عامًا، وهي فئة مهمشة من قبل مؤسسات المجتمع المدني، والتي تتعامل مع الأطفال حتى سن معينة، وتهدف إلى تنمية قدراتهم من خلال دورات فنية.
ويسعى الفنانون إلى الارتقاء بالمجتمع في غزة من الناحية الفنية، من خلال المُساهمة الإيجابية في تطوير الحالة المجتمعية، ومعالجة عدد من القضايا والمشاكل الفنية، عبر خلق مساحات للتعبير الحر من خلال الفن.