عندما قررت أم كلثوم اقتحام ميدان الأفلام السينمائية، وبدأت ترتيبات تصوير فيلمها الأول "وداد" عام 1936، شعرت أن فرقتها الموسيقية الصغيرة بحاجة إلى التدعيم ببعض العازفين، كي تقدم عزفاً متسقاً مع الحالة الاستعراضية السينمائية، خصوصاً مع إدراكها أن المقارنة بما يقدمه محمد عبد الوهاب في أفلامه ستكون حتمية. هكذا قبلت مقترحاً بضم عازف الكمان أحمد الحفناوي، ومعه اثنان من زملائه، للمشاركة في عزف أغنيات الفيلم. لكنها لمست بنفسها الزخم الذي أضافه الحفناوي، فطلبت منه الاستمرار معها للعزف في حفلاتها، لتبدأ رحلة فنية طويلة، استمرت نحو 35 عاماً، كان خلالها أحمد الحفناوي، رئيساً لطاقم عازفي الكمان، وركناً أساسياً من أركان فرقة سيدة الغناء.
في بداياته، عزف أحمد الحفناوي لعدد من كبار المغنين، في مقدمتهم فتحية أحمد، وفريد الأطرش، ونادرة، ومحمد عبد الوهاب. إلا أن العزف خلف أم كلثوم مثّل له فرصة كبيرة، لتوسيع شهرته وترسيخ مكانته في الوسط الفني.
يتيح عزف الصولوهات في حفلات أم كلثوم لقاء مباشراً بجماهير عريضة، تمنح العازف قدراً كبيراً من الإنصات، ثم تمنحه قدراً مماثلاً من التقدير الفوري. ويمكن أن نمثل لهذا الجانب بالصولو الشهير في مقدمة أغنية "ليلي ونهاري"، أو مقدمة قصيدة "من أجل عينيك".
لم يمض وقت طويل حتى أصبح الحفناوي أحد أضلاع المثلث القيادي في الفرقة مع محمد القصبجي ومحمد عبده صالح. هذا المثلث الذي قصرت أم كلثوم فرصة الارتجال على أعضائه، فلم تعرف حفلاتها يوماً ارتجالات على الناي مثلاً، ولا حتى على كمان لعازف غير الحفناوي. أثبت الرجل أهليته الكاملة لهذه الثقة الكلثومية، وجاءت ارتجالاته مواكبة للمستوى الذي يقدمه القصبجي وصالح. ويمكن أن نشير هنا إلى أدائه الارتجالي في محافل عدة لأغنية "يا ظالمني"، يعرفها جيداً جامعو تسجيلات أم كلثوم.
كأغلب أعلام الموسيقيين في جيله، تلقى أحمد الحفناوي تعليماً موسيقياً تأسيسياً قوياً، وساعدته ظروفه الأسرية، إذ ولد ونشأ في القاهرة، وكان والده يملك دكاناً لبيع الآلات الموسيقية التي كان يصنع معظمها بنفسه، ولا سيما الأعواد والقوانين. كان هذا الدكان مقصداً لكبار الموسيقيين والمشتغلين بالفن، لشراء الآلات التي يعزفون عليها. كان محمد القصبجي وإبراهيم القباني من زبائن الدكان الشهير. عزفُ الفنانين ونغماتهم أثناء تجربة الآلات جذبت انتباه الطفل أحمد الحفناوي، ولما لاحظ والده منه هذا الاهتمام طلب منه أن يحدد الآلة التي يريد أن يتعلم العزف عليها، فاختار الكمان. كان الوالد داعماً وراعياً لابنه المفتون بالموسيقى، فاستقدم مدرّساً ليعلم ابنه أصول العزف، واهتم بإتقانه القوالب الرئيسية من سماعيات وبشارف.
ووفقاً للباحث والمؤرخ الموسيقي زين نصار، استجاب والد الحفناوي إلى مقترح من الموسيقار محمد القصبجي لإلحاق ابنه بمعهد الاتحاد الموسيقي الخاص الذي كان قد أنشاه الفنان إبراهيم شفيق في حي عابدين في القاهرة. ويضيف نصار: "هناك قضى أحمد الحفناوي بعض الوقت، ولكنه وجد أن ذلك المستوى من الدراسة لم يكن يشبع طموحه الفني، فالتحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، وهناك درس العزف على آلة الكمان على يد مجموعة من الأساتذة الأجانب، في مقدمتهم الإيطالي داجوليو، ثم الأرمني أرمنياك الذي كان أستاذاً لجيل كامل من عمالقة الكمان، وعلى رأسهم أنور منسي، وعطية شرارة، ومحمد حجاج. أتقن الحفناوي كثيراً من تقنيات العزف الغربية التي أخذها عن أساتذته الأجانب، لكنه وظف هذه التقنيات ليقدم عزفاً شرقياً انسيابياً أخاذاً".
كان عزفه يدمج 3 مراحل تعليمية: مرحلة التأسيس وإتقان القوالب الأساسية، ومرحلة معهد الاتحاد، ومرحلة الأساتذة الأجانب في معهد فؤاد الأول. ومن أهم التقنيات التي تفوق فيها الحفناوي: العزف المتصل "الليجاتو"، وهو عزف نغمتين أو أكثر بضربة قوس واحدة، وهو ضروري جداً للعزف الغنائي. ويقابل "الليجاتو" ما يعرف بـ"الاسبيكاتو"، وهو أداء نغمات عدة منفصلة عن بعضها بخفة شديدة، عن طريق ضرب الوتر بمنتصف القوس، وكذلك حلية الزغردة "التريل". وأيضاً "البورتامنتو"، وهو الانتقال من نغمة لأخرى بعيدة، ارتفاعاً أو انخفاضاً، مع المرور الخاطف على النغمات الوسيطة لتخفيف القفزة اللحنية، و"الفيبراتو"، وهو تمويج الصوت من خلال اهتزاز اليد اليسرى بتحريك عقلة الأصبع الأولى مع الرسغ والذراع.
وعلى الرغم من كل هذا، فإن عدداً من الباحثين والنقاد يرون أن تفوق الحفناوي جاء بإحساسه العميق بالجملة التي يعزفها، لا بقدراته التقنية التي يفوقه فيها عدد من زملائه، وفي مقدمتهم أنور منسي.
ترك أحمد الحفناوي عدداً كبيراً من المؤلفات الموسيقية التي كتبها خصيصاً لآلة الكمان وعزف كثيراً منها بنفسه في برامج إذاعية وتلفزيونية، منها: "عيون حبيبي"، و"أم كلثوم"، و"نغم من الجزائر"، و"نور الشرق"، و"أحلام أمير"، و"خواطر"، و"دعاء"، و"ذكريات الشاطئ"، و"من القلب".
كما أدى الرجل كثيراً من الألحان التي صاغها كبار الموسيقيين، وفي مقدمتهم محمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد، ومحمد القصبجي، وسجل بعض القوالب الكلاسيكية من السماعيات والبشارف والتحميلات، وأيضاً ترك كثيراً من التقاسيم الحرة والموقعة بمقامات عدة.
في لقاءاته وحواراته المسجلة، سار الحفناوي على عادة كبار الفنانين المصريين في انعدام الدقة، وتقديم إجابات مختلفة عن سؤال واحد. يقول إنه التحق بفرقة أم كلثوم وعمره 16 عاماً، ثم يقول إن أول عزفه لها جاء في فيلم "وداد"، ثم التحق بعده بفرقتها عام 1936، والرجل من موالد عام 1916، أي إن عمره لم يقل عن 20 عاماً حين عزف لأم كلثوم أول مرة. لا تعطي حوارات الرجل صورة واضحة عن سياقات عزفه لمطربين كبار من أمثال محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، رغم كونه ركناً من أركان فرقة أم كلثوم، ولا ما كان يُتبع عن التعارض بين بروفات "الست" وبين بروفات وحفلات غيرها.
لكن بعيداً عن الدقة التاريخية والسياقية، فإن هذه اللقاءات تتضمن معلومات وفوائد، ومنها أن الحفناوي لم يفكر يوماً في تلحين أي نصوص، فانتماؤه إلى العزف، وإلى التأليف الآلي، والقوالب والتقاسيم.
عام 1963 كوَن أحمد الحفناوي فرقة بقيادته كانت تتبع إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة، واستمرت تلك الفرقة قرابة 4 سنوات، إلى أن وقعت هزيمة يونيو/ حزيران 1967، فصدر قرار بحلها مع كثير من التشكيلات الفنية المماثلة. وعمل الحفناوي عازفاً للكمان في فرقة الإذاعة، تحت قيادة كل من عبد الحليم نويرة وإبراهيم حجاج، ثم عمل عازفاً أول في الفرقة الماسية تحت قيادة أحمد فؤاد حسن. وكان له دور مهم في إنشاء أول معهد موسيقي في المملكة العربية السعودية، وتكوين فرقة موسيقية للمملكة، مكونة من 80 عازفاً، وهي مهمة كبرى بلا شك.
وإذا احتسبنا الرحلة الفنية للحفناوي منذ تخرجه من معهد الموسيقى العربية عام 1936، وحتى يوم رحيله في 5 أغسطس/ آب عام 1990، فسنجد أنفسنا أمام مسيرة عطاء وتوهج استمرت 54 عاماً، استطاع خلالها الرجل أن يستنطق الكمان، ليبوح له بكثير من أسراره.