تتوزع عشرات المواقع الأثرية التي تعود إلى حقب تاريخية مختلفة في محافظة الأنبار غربي العراق، وتقع في مثلث جغرافي واسع يربط بغداد مع سورية والأردن والسعودية. لكن لا تزال هذه المعالم غير معروفة بالنسبة لكثير من العراقيين، بسبب الإهمال الذي تعاقب عليها طيلة العقود الماضية. وازداد الوضع سوءاً مع التردي الأمني عقب الغزو الأميركي للعراق عام 2003، فحال دون تنظيم أي حملات استكشاف وتنقيب أو رعاية لتلك المواقع كما شهدت محافظات أخرى من العراق.
وتعاني اليوم هذه المعالم من خطر التدمير بسبب ظروف مختلفة، بينها طبيعية نتيجة التعرية والأعمال العسكرية والاعتداءات الإرهابية. ويخشى ناشطون ومهتمون بالتاريخ من أهالي الأنبار، أن يقضي الإهمال على شواهد تاريخية تؤكد عراقة مدن عدة فيها مثل هيت، والفلوجة، وجبة، والقائم، والخالدية وغيرها من مدن المحافظة. يقول خبير الآثار أحمد الجبوري لـ"العربي الجديد" إنه على امتداد نهر الفرات الذي يخترق مدينة الرمادي، قامت حضارات تعود لحقب مختفة موغلة بالقدم. ويشير إلى أن شواهد لهذه الحضارات ما تزال قائمة، وهي تعود لحضارات سومر وآشور وصولاً إلى الحقبة العباسية الأولى والثانية وحتى الفترة العثمانية قبل نحو 100 عام.
تعاني المعالم من خطر التدمير بسبب ظروف مختلفة، بينها طبيعية نتيجة التعرية والأعمال العسكرية والاعتداءات الإرهابية
ويلفت الجبوري إلى أن "موقع الأنبار زاد من أهمية هذه المدينة لكونها منطقة تربط بين العراق وبلاد الشام، هذا من جهة ومن جهة أخرى تحتوي المنطقة على الصخور والقير وهي مواد كانت تستخدم في البناء والتي اعتمدتها الحضارات القديمة في وادي الرافدين بالبناء. كذلك وجود نهر الفرات حيث معروف أن المياه كانت مصدر المعيشة الأساسي في تلك الأزمنة، إذ أقيمت حول الفرات العديد من القرى والمدن التي اعتمدت على الزراعة وتربية الحيوانات في معيشة سكانها".
هذه الأسباب كانت وراء قيام مدينة وحضارة في الأنبار، واختتمت بشواهد إسلامية بعد فتح المسلمين العراق في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وفقاً للجبوري. وعلى الرغم من انتشار الآثار في معظم مناطق الأنبار التي تمتد على مساحة تبلغ 138,500 كيلومتر مربع، وتصل إلى نحو ثلث مساحة العراق الإجمالية، لكن السمعة الأبرز لهذه الآثار توجد في قضاء هيت الواقع إلى الغرب من مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار. وتعتبر قلعة هيت ومنارتها أبرز الشواهد التاريخية التي ما تزال أطلالها تؤكد تاريخ الأنبار الغارق في القدم.
مراقب آثار هيت نبيل موسى، قال لـ"العربي الجديد" إن عدد المواقع الأثرية المسجلة في قضاء هيت يبلغ 59 موقعاً أثرياً بينما هناك عشرات المواقع الأخرى في محافظة الأنبار بشكل عام، مؤكداً أن مدينة الفلوجة التي تعتبر أحد أقضية محافظة الأنبار تضم العدد الأكبر من المواقع الأثرية في المحافظة. وأوضح أن التنقيبات الأثرية أثبتت أن موقع تل أسود غرب الأنبار هو أقدم موقع أثري مكتشف حتى الآن في محافظة الأنبار، مشيراً إلى أن تاريخ هذا الموقع الأثري يعود إلى 3200 - 2800 قبل الميلاد. وذكر موسى أن المواقع الأثرية تعرضت لأضرار نتيجة العوامل البيئية الطبيعية، وأيضاً نتيجة العمليات العسكرية التي شهدتها المحافظة، موضحاً أن مسؤولية صيانتها تعود إلى الهيئة العامة للأثار والتراث، لكنه يؤكد أن هناك مسعى لإدراج عدد من المواقع الأثرية بالمحافظة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وهو ما يساهم في المحافظة على هذا الإرث الحضاري.
مسؤول في دائرة آثار الأنبار قال في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، إن سبب عدم وجود عمليات تأهيل أو صيانة يعود لقلة التخصيصات المالية الممنوحة لهم من قبل الحكومة ببغداد. مضيفا أن بعض المواقع تعرضت فعلاً للسرقة، وأخرى اندثرت بفعل عوامل طبيعية كالأمطار الأخيرة، لكن النسبة الكبرى آذتها الحرب حتى أن موقعًا قرب الفلوجة استخدم كثكنة عسكرية لعناصر الجيش وتحصنوا داخله دون أن يعلموا أنه موقع أثري قديم ما أدى الى إلحاق أضرار كبيرة به. وختم بالقول إن الأضرار التي تعرضت لها المواقع الأثرية كبيرة بسبب الحرب أو تعمد تنظيم داعش تفجيرها تحت مزاعم مختلفة بين عامي 2014 و2017، من بينها منارة شيدت في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، في بلدة جبة على نهر الفرات 140 كم غرب الرمادي مركز محافظة الانبار، وموقع سومري قديم تم وضع متفجرات فيه وتدميره قرب هيت.
سبب عدم وجود عمليات تأهيل أو صيانة يعود لقلة التخصيصات المالية الممنوحة من قبل الحكومة ببغداد، كما أن بعض المواقع تعرضت فعلاً للسرقة
بدورهم فإن عدداً كبيراً من العراقيين يجهلون وجود مواقع أثرية مهمة في الأنبار تعود لعصور تاريخية مختلفة، واستغرب مواطنون من سكنة العاصمة بغداد وجود آثار تعود لعصر ما قبل الإسلام. وتقول زهراء عبد الجليل وهي موظفة في وزارة التربية، في حديها لـ"العربي الجديد" إنها من أصول تعود لجنوب العراق وليس لديها معارف في مدينة الأنبار ولم تسنح لها فرصة لزيارتها. وأضافت: كل ما أعرفه أن الأنبار بنيت بعد فتح العراق من قبل المسلمين وتوجد فيها مواقع إسلامية قديمة". وهو ما يذكره أيضا عماد مشحن (36 عاما)، الذي على الرغم من أنه يحمل شهادة جامعية لكنه يجهل أهمية الأنبار التاريخية. مشحن قال لـ"العربي الجديد" إن له أصدقاء من الأنبار بحكم عمله في تجارة الأصباغ، لكنه لا يعلم بوجود آثار في الأنبار لا تقل أهمية عن آثار بابل المحافظة الأكثر شهرة بوجود الآثار في العراق. ويعتقد مثقفون وفنانون من الأنبار أنَّ رسالة مهمة عليهم حملها للمحافظة على آثار مدينتهم والتعريف بيها والترويج لها، ومن بين هؤلاء الإعلامي والمصور كاظم البغدادي، الذي يقول إن حبه للمواقع الاثرية في مدينته يدفعه إلى توثيقها ونشرها.
ويقول لـ"العربي الجديد": "انا كمصور أحب هذه المناطق الأثرية بمحافظتي. أصورها وأنشرها على مواقع التواصل حتى يتعرف العراقيون على جمال وقيمة هذه المناطق الأثرية". وكان معرض الصور الفوتوغرافية الشخصي الأول للبغدادي يحمل رسائل من هذا النوع حيث وثق القيمة الفنية، والجمالية لمدينته وآثارها وتاريخها. لكنه يقول إنه يشعر اليوم بالحزن عندما يرى "التغيير والهدم الذي طرأ على هذه الآثار والذي يظهر من خلال الصور التي التقطتها قبل عشر سنوات وبين الآن". وأضاف: "أصبحت اشعر بالخوف على آثار مدينتي، وأتمنى أن نرى حكومة تعرف قيمة هذه الآثار وتعمل على حمايتها".
عدد من المصورين المحترفين من مدينة الأنبار يجتهدون في مجال توثيق آثار مدينتهم، في مسعى يرون من الواجب تنفيذه، لحماية آثار مدينتهم. من بين هؤلاء المصورين يبرز عمار شاكر الهيتي، الذي قال لـ"العربي الجديد"، إنه منذ الصغر كان مغرماً بأزقة القلعة القديمة في قضاء هيت بالإضافة إلى منطقة المعمورة التي تعتبر من أقدم المواقع التاريخية في العراق. وأضاف أن هذه المناطق كانت المكان المحبب للعب والمرح له ولبقية الأطفال، خاصة محيطها المتمثل بالبساتين ووجودها قرب نهر الفرات الذي يزيد من جمالها وأهميتها. وأشار إلى أن همه وهم آخرين غيره من سكان المدينة أن تمتد يد الإعمار والحماية لهذه الآثار، مؤكداً أن "بيوت القلعة القديمة اندثرت بسبب أعمال البناء الحديث وأجواء المناخ المتقلبة والصراعات والحروب التي مرت فيها".
عدد من المصورين المحترفين من مدينة الأنبار يجتهدون في مجال توثيق آثار مدينتهم، في مسعى يرون من الواجب تنفيذه لحماية آثار مدينتهم
وأعرب الهيتي عن استغرابه أن تكون زقورة أور التاريخية التي زارها بابا الفاتيكان البابا فرنسيس مؤخراً، ومدينة بابل التاريخية، وأبنية تاريخية عديدة جرى تعميرها بالاعتماد على قير مدينة هيت ولم يهتم أحد بأمر هذه المدينة إطلاقاً، وفق قوله. وتابع: "بدأت أصور وأنشر معلومات عن مدينتي وأوثق آثارها من قلعة ومئذنة وناعور وطاحونة بمختلف الأجواء. أشارك في المسابقات والمواقع العالمية لكون الصورة تتكلم وتنقل ما تحمله قلوبنا لمدينتنا، وهنا جذبت اهتمام الناظر لمعرفة مدينتنا وأهميتها".