إعلان "مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي" لائحة أفلامٍ ستُعرض في برنامج "كنوز البحر الأحمر"، في "الدورة الافتتاحية" (بحسب تسمية إدارة المهرجان للدورة الأولى)، المقامة بين 6 و15 ديسمبر/ كانون الأول 2021 في جدّة، مُثيرٌ لتعليق نقدي، يتناول كيفية الاختيار، وما يُمكن أنْ يُستشَفّ منه. التعريف بالبرنامج، في بيان صحافي صادر عن الإدارة في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، مُنطلَقٌ للتعليق، إذْ يقول إنّ البرنامج مخصَّصٌ "للاحتفاء بأفلامٍ كلاسيكية حاصلة على جوائز"، ولها "بصمتها في ذاكرة المُشاهدين". يُضيف التعريف أنّ الأفلام عربية وعالمية، وأنّ عرضها في البرنامج يهدف إلى "إعادة اكتشافها وتقديمها" مُجدّداً.
مهرجانات سينمائية عربية ودولية تُعنى بهذا الجانب من الإرث السينمائي. تحصل على نسخٍ، وبعض المهرجانات أقدر من غيره على الحصول على نسخ مُرمَّمة وذات جودة تقنية وفنية عالية جداً، تُعرض في صالات أو في أمكنة مفتوحة. تقليدٌ كهذا يُذكِّر هواة السينما ومحبّيها بمحطات قليلة من تاريخ عريق. الترميم تحريضٌ على المُشاهدة، والشاشات الكبيرة، بتقنياتها الحديثة، تعويض للمهتمّ، الذي يُشاهد تلك الأفلام القديمة على شاشات صغيرة، وإنْ كانت تقنيات العروض المنزلية أحدث وأكثر تطوّراً.
لكنّ السؤال الأبرز كامنٌ في معرفة كيفية اختيار الأفلام. مهرجانات عربية تحتفي، كلامياً، ببرامج كهذه، وعند التنفيذ يعكس اختيار الأفلام كسلاً في البحث والبرمجة، يُبرّره مبرمجون ومسؤولون بعجزٍ عن الحصول على المبتغى، أحياناً. هناك سهولة طاغية في الاختيار، الذي يبدو عادياً للغاية، وإنْ كانت الأفلام المختارة مهمّةً وراسخةً وكلاسيكية. اختيار "مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي" الأفلام العربية لـ"الكنوز" دليلٌ على استسهال لا علاقة له بقيمٍ، سينمائية وفنية ودرامية وثقافية، متفاوتة المستويات، تمتلكها الأفلام الـ5 تلك (4 مصرية وواحد سعودي)، إلى 3 أفلام أجنبية. قيمٌ يُفترض بكاتب البيان، الصادر عن إدارة المهرجان، التنبّه لها، لأنّها أهمّ بكثير من مجرّد "حصولها على جوائز" (هذا يسبق القول إنّ للأفلام "بصمة في ذاكرة المُشاهدين").
غلبة المصريّ فاقعةٌ في مهرجانات سينمائية عربية، بعضها حديثٌ، وبعضها يُقام في مدنٍ أوروبية. الغلبة هذه تعني إمّا استسهالاً وإمّا سهولة، فالأول يقول كسلاً لدى المبرمجين في البحث والتنقيب والسعي إلى العثور على "كلاسيكيات" عربية، مُنتجة في دول عربية أخرى غير مصر؛ والثانية تعني أنّ الحصول على نسخٍ، بعضها غير مُرمَّم، من أفلام مصرية غير محتاجٍ إلى جهدٍ كبير ومال كثير. الغلبة لن تكون انعكاساً لسطوة مصر في الإنتاج السينمائي القديم، رغم أنّ السطوة واقعٌ غير متمكّن من إلغاء إنتاجات عربية أخرى، قليلة العدد، لكنّها تنتمي إلى الكلاسيكيات أيضاً، ويُفضَّل أنْ يُشاهدها الناس بعد أعوام على إنجازها، خصوصاً أنّ غالبيتها غير مُشَاهَدة سابقاً، لا في السعودية ولا في غيرها من دول عربية، تصنع سينما أو تُنجز أفلاماً.
أمّا اسم البرنامج (كنوز البحر الأحمر)، فلن يكون سبباً مقنعاً لغلبة المصري، مع استثناء سعودي. الأفلام الأجنبية مُنتجة في دول غير مطلّة على البحر الأحمر، وغير قريبة منه. هناك من الهند "الإله الفيل" (1979) لساتياجيت راي، ومن فرنسا وثائقي لتييري فريمو عن "لوميير" (2017). هناك تكريمٌ للممثل الفرنسي جان ـ بول بلموندو (1933 ـ 2021)، بعرض نسحة مُرمَّمة من "بيارو المجنون" (1965) لجان ـ لوك غودار. الأفلام المصرية لـ4 مخرجين، نتاجاتهم راسخة في الذاكرة والوجدان والتاريخ، وقابلةٌ دائماً للنقد والنقاش: "دعاء الكروان" (1959) لهنري بركات، و"الاختيار" (1971) ليوسف شاهين، و"حرب الفراولة" (1994) لخيري بشارة، و"قليلٌ من الحبّ كثيرٌ من العنف" (1995) لرأفت الميهي. أما السعودي، فأول روائي طويل لهيفاء المنصور: "وجدة" (2012).
مُجدّداً: لا علاقة للتعليق النقدي بأهمية الأفلام المختارة، وبانتماء معظمها إلى كلاسيكيات السينما في العالم. لكنْ، أيكون "وجدة" فيلماً كلاسيكياً؟ أم أنّ جنسيته السعودية كافيةٌ لجعله كلاسيكياً في بلدٍ، يخطو خطوات بطيئة في إنتاج الأفلام؟ ماذا عن دول عربية تُنجَز فيها وبـ"اسمها" أفلامٌ منذ سنين مديدة: ألا تستحق أنْ تحضر في "دورة افتتاحية" لمهرجان سينمائي جديد، يُقام في بلدٍ يحتاج إلى وقتٍ طويل، وإلى تغييرات جذرية في مفاهيم وعلاقات وتفكير، للخروج من حالة التأسيس السينمائي، رغم جهود فردية تستحق المُشاهدة والنقاش؟ ماذا عن دول المغرب العربي؟ عن سورية ولبنان وفلسطين مثلاً؟
العثور على أفلامٍ تُصنَّف كلاسيكية، في دول كهذه، غير صعب، رغم التساؤل عن القيم المختلفة التي تمتلكها، ولبعض الأفلام قيمٌ مستلّة من لحظة الإنجاز، ولها حقّ في أنْ تكون كلاسيكية. "دورة افتتاحية" لمهرجانٍ جديد، يُقام في مملكةٍ، غير متمكّنةٍ من صُنع أفلامٍ كدول عربية عدّة تُغيَّب عن "كنوز" البرنامج الكلاسيكي، تحتاج إلى بعض الموروث في السينما العربية، لا في السينما المصرية فقط، وإنْ يكن سعوديون كثيرون مرتبطين بالدراما المصرية أكثر من غيرها (من دون تناسي ارتباطاتهم بالدراما السعودية والخليجية). هذا لن يُجيز لمبرمجي الـ"كنوز" حجب أفلامٍ عربية عن برنامج "مصري" بامتياز، يُراد له أنْ يكون استعادة لموروثٍ سينمائي، وفي مهرجان يُراد له أنْ يكون سينمائياً ودولياً.
هذا لا علاقة له بالقيم السينمائية المختلفة للأفلام المصرية الـ4، فلكلّ من بركات وشاهين وبشارة والميهي مكانة ثابتة وراسخة في الوجدان والذاكرة والصناعة والثقافة، وأفلامهم قابلةٌ لمُشاهدات ونقاشات غير منتهية. هذا له علاقة بآلية عمل وتفكير و"علاقات عامة". هذا يُعتَبر إساءة إلى السينما العربية، وإلى كلاسيكيات عدّة في السينما العربية. أما تفسيرات المدير الفني للمهرجان، إدوارد وينتروب، ومدير البرنامج العربي والأفلام الكلاسيكية، أنطوان خليفة، فمجرّد كلامٍ تنظيري، يُردّده مبرمجو مهرجانات سينمائية عربية عدّة، رغم إشارة فيه إلى أنّ مؤسّسة المهرجان "تهدف إلى المحافظة على الموروث السينمائي"، وأنّها مستعدّة للمساهمة في ترميم وإعادة إحياء "روائع" عربية وعالمية، وهذه ملاحظة تحتاج، بدورها، إلى قراءة، إذْ كيف يُمكن لمؤسّسة مهرجانٍ، يُقام في بلدٍ كالسعودية، أنْ تُساهم في ترميم "روائع" عربية وعالمية، وتحول ـ في الوقت نفسه ـ دون قيام صناعة سينمائية محلية، أو دون إنتاج أفلامٍ أكثر، بهامش حرية أكبر وأعمق وأكثر مسؤولية؟
كلامٌ كهذا لن يحول دون طرح المسألة على نقاشٍ، أميل إلى الاعتقاد أنّه لن يحدث، لكسلٍ أو لاستسهالٍ أو للامبالاة.