"كتاب السمك": عمق أفكار وجماليات الأسود والأبيض

11 مارس 2022
"كتاب السمك": فيلم جميل بصُوره وتأمّلاته الفكرية (الملف الصحافي)
+ الخط -

رغم صعودها القوي واللافت للانتباه، ولأفلامٍ بارزة فيها لكبار المخرجين، أمثال بارك تشان ووك ولي تشانغ دونغ وهونغ سانغ سو وبونغ جون هو وغيرهم، وحصول بعضهم على جوائز من مهرجانات أساسية، تتميّز سينما كوريا الجنوبية بكونها عصرية بامتياز. معظم مواضيعها تعاين المشاكل الآنية للمجتمع، السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ورغم ثرائها وعمقها وغزارة إنتاجها وتنوّعه واختلافه الملحوظ، تغيب الأفلام التاريخية تماماً منها، أقلّه في العقدين الماضيين. الأمر نفسه ينسحب على أفلام السِيَر الذاتية والشخصيات التاريخية.

في "كتاب السمك" (2021)، لجون ـ إك لي، يستعرض السينارييست سي ـ غيوم كيم أهم المحطات في حياة المفكر الكوري الجنوبي جيونغ ياك يونج (1758 ـ 1816). تبدأ الأحداث عند وفاة الملك جيونجو، وما تلاها من هجومٍ على الكاثوليكيين، أتباع ما يسمّى بـ"الشرّ الغربي"، الموصومين بخيانة الأمة والأيديولوجيا الكونفوشيوسية. مشاهد الاضطهاد الكاثوليكي، في البداية، تذكر بـ"صمت" (2016) لمارتن سكورسيزي، وإعدام غير الكونفوشيوسيين ونفيهم واضطهادهم.

تلك المشاهد، رغم قلّتها، تُعرِّف بالعائلة النبيلة والمرموقة لجيونغ ياك يونج، المُنكَّل بها. تتألّف من الأخوة جيونج ياك جونج، وجيونج ياك جيون، وجيونج ياك يونج. قُتِل ياك جونج بعد رفضه الارتداد عن المسيحية الكاثوليكية، ونُفي شقيقاه إلى مكانين بعيدين، وجُرِّدا من كلّ شيء. ورغم شهرة ياك يونج، ومكانته الفكرية والأدبية في مملكة "جوسون"، الممتدة على 5 قرون، حتى إعلان الإمبراطورية الكورية عام 1897، سرد المخرج سيرة ياك جيون، الشقيق الأكبر، المنفي إلى جزيرة الجبل الأسود عام 1801، والذي لم ينصفه التاريخ كثيراً، ولم تحظ مؤلّفاته الكثيرة بالرواج، رغم أهميتها. تخيّل السيناريست كيفية عيش ياك جيون في الجزيرة، وتأليفه أهم أعماله، "كتاب السمك"، المماثل لـ"كتاب الحيوان" للجاحظ في التراث العربي.

فوق جزيرة الجبل الأسود المعزولة، تستضيف ياك جيون (سول كيونج جو) أرملةٌ لطيفة، تخدمه بإخلاص واحترام، لمكانته الرفيعة، وطبقته النبيلة. لاحقاً، يُصادف الشاب تشانج داي (بيون يو هان)، الكونفشيوسي جداً. صيّاد مُتعلّم ومُولع بالقراءة، مع أنّه لا يُجيد اللغة الصينية بدرجة كافية. بحكم مهنته، لديه معرفة واسعة بالمخلوقات البحرية، والأصداف، والشعاب المرجانية، والحياة البحرية عامة. يحلم تشانغ داي بدراسة المزيد، والحصول على وظيفة مرموقة في الحكومة. لكنّ الفقر وقلّة الكتب، وقبل ذلك طبقته المتدنيّة، تحول كلّها دون تحقيقه أحلامه. بالنسبة إليه، يعتبر ياك جيون خائناً للعرش وللمذاهب الكونفوشيوسية، وجالبا الأفكار الغربية التي يُناصرها. لذا، كان يتجنّبه ويبتعد عنه قدر الإمكان.

مع الوقت، يُعجب ياك جيون بالمعارف البحرية لتشانج داي، فيطلب مساعدته في تأليف موسوعة عن الحياة البحرية في جزيرة الجبل الأسود. بعد شدّ وجذب، وتنافر ونفور، أدرك الاثنان أنّ كل واحد منهما يُمكن أنْ يكون مفيداً للآخر، فدعاه ياك جيون إلى ما أسماه "تجارة المعرفة"، وبدأت تتطوّر وتتوطّد علاقتهما، القائمة على احترامٍ متبادل بين المعلّم والطالب، بشكلٍ غير متوقَّع، ورغم تعارض وجهات النظر بينهما: تشانج داي يؤمن أنّ العودة إلى التقاليد الكونفوشيوسية، ورفض الفكر الغربي، يُصلحان الحكومة الكورية؛ بينما يتبنّى جيون ياك وجهة نظر تُفيد أنْ لا تعارض بين هذه الأفكار وتلك الغربيّة.

 

 

عبر شخصية المفكّر ياك جيون، يتناول المخرج أيضاً قصّة الطبقة والمرتبة، أي السادة والعبيد، والأثرياء والمطحونين، دافعي الضرائب، وغير هؤلاء، في عصر مملكة "جوسون"، وكيف أثّر ذلك، بشكل كبير، على الحياة والمجتمع، لعقودٍ عدّة. الفيلم، إجمالاً، تلميح للمدارس الفكرية المتحاربة في كوريا أوائل القرن الـ19، وللجوانب الجيدة والسيئة للكونفوشيوسية، وللسياسات الفكرية والاجتماعية السائدة حينها. مواضيع لا تزال وثيقة بعض الشيء بالمجتمع الكوري المعاصر، لا سيما في المقارنة بين القديم والحديث، وعقلية الانفتاح والتسامح، وتلك الانغلاقية المتشدّدة، أو عقلية القرون الوسطى في مقابل العصر الحديث، وكيفية التعايش وقبول الآخر، والتغيرات التي تفرضها الحياة والعصر على الشعوب والمجتمعات. هذا كلّه من دون أنْ يُميّز أو يُدين، أو يميل إلى الكونفوشيوسية في مقابل المسيحية، أو العكس.

لذا، سُلّط الضوء على قبول التغيير من خلال شخصية المفكر ياك جيون، الذي لم يستنكر الكونفوشيوسية تماماً، وظلّ مستعدّاً لتقبّل جوانب القصور فيها، ومعالجتها. كما غيَّرَ ياك جيون اتجاهه من كتابة الشعر والقصص والمعاهدات، مُكرِّساً نفسه لتأليف "كتاب السمك". كذلك، جُسِّد الإحجام عن التغيير في شخصية تشانج داي، الذي يريد أنْ ينجح في الحياة، لكنّه متردّد أمام إجراء تغيير، سيُفيده كثيراً، كما يتّضح لاحقاً. ورغم الصراع الملموس فيه، يملك "كتاب السمك" قدراً كبيراً من الجاذبية والديناميكية والمتعة. إنّه غير جادّ بشكل مُفرط، وليس فيلماً فكرياً مملًّا.

تألّق المخرج لي جون ـ إك في "كتاب السمك"، بتقديمه مشاهد الحياة اليومية القروية في الجزيرة، والحياة البحرية، وأيضاً في تركيب الشخصيات إجمالاً. يبدو هذا جليّاً في العمق العاطفي الذي أسبغه على سكان الجزيرة، ولم يمتد بشكل ملحوظ إلى سكان البر الرئيسي. فجون ـ إك، أستاذ الأفلام التاريخية في كوريا الجنوبية، صوَّر طبقة عصر "جوسون" موظفين متعطّشين للسلطة، وفاسدين، وغير أكفاء.

الفيلم ممتعٌ للغاية. ففضلاً عن تصويره الحسّاس للعلاقة بين داي وجيون، ينقل المخرج باقتدار ملحوظ تفاصيل المكان والفترة التاريخية وإحساسهما، بإقناع شديد. كما تجلّت جماليات التصوير السينمائي بالأسود والأبيض، مُنتجةً صوراً مُذهلة التقطها أوي تاي لي. مشاهد عدّة ـ كالجبال المغطاة بالضباب، والأمواج المتلاطمة على الشواطئ، والاصطياد مثلاً ـ بدت لوحات مائية عتيقة، مرسومة بالحبر الأسود، ومُحمّلة برائحة اليود البحري. كما أنّ للأداء الرفيع للممثلين دوراً في بثّ الحياة والبساطة والذكاء والصدق في الشخصيات، بشكلٍ مُذهل، خاصة الشخصيتين الرئيسيتين، وأداء سول كيونج جو وبيون يو هان، بما في ذلك شخصية حاكم الجزيرة، المثيرة للسخرية والشفقة.

المساهمون