يمتلك "فرسان السينما: سيرة وحدة أفلام فلسطين" (2020، "منشورات دار الأهلية" عمّان، الأردن)، للكاتبة الأردنية خديجة حباشنة، خاصية فريدة، نادراً ما يُعثر عليها في التأليف العربي المعاصر: الموضوعية، والتنصّل من إطلاق أحكام القيمة وإنكار الذات، وإنْ تكن المؤلفة صاحبة حضور كبير في تجربة "وحدة أفلام فلسطين"، فهي شاهدة ومساهمة، إلى حدّ كبير، في توثيق هذه التجربة السينمائيّة الرائدة في تاريخ السينما العربية.
كتابها يتعلّق بـ"وحدة أفلام فلسطين"، وفُرسانها الذين قاوموا الاحتلال الإسرائيلي بأفلامٍ لا تزال حاضرة في الذاكرة السينمائية. هؤلاء الفرسان مخرجون ومُصوّرون وكتاب سيناريوهات، قدّموا تضحيات جسيمة، جاعلين السينما، بعد نكسة 1967، أداة من أدوات الثورة والمقاومة في الأردن ولبنان وفلسطين، بدءاً من المخرج مصطفى أبو علي، العائد من لندن للعمل في "قسم السينما" في وزارة الإعلام، إلى جانب المُصوِّرين سلافة جاد الله وهاني جوهرية، اللذين أسّسا قسم التصوير في "حركة فتح". والتصوير جعله "الفرسان الثلاثة" وسيلة لخدمة الثورة.
تأسّست "وحدة أفلام فلسطين" أواخر عام 1968، وكانت أول وحدة سينمائيّة عربية تُرافق بداية التحرر الوطني، بتوثيقها يوميات الحركات الثورية الفدائية الفلسطينية، وأرشفتها التضحيات الأليمة التي قدّمها الفلسطينيون في مواجهة الجيش الإسرائيليّ. ومن خلالها، نقل مصطفى أبو علي هذا كلّه إلى عالم الصورة، مازجاً التخييل بالواقع، الذي (الواقع) استحوذ على المشهد، وجعل الحكاية تشقّ مساراً مؤلماً لم يندمل إلى اليوم، وجعل المُشاهد غير الفلسطيني يتفاعل مع المخرجين والمُصوّرين، الفدائيين هم أيضاً، الذين تعرّضوا لمصاعب شتّى لحظة نقلهم هذا الواقع ومآسيه، ما جعل الصورة عند أبو علي تبدو كأنّها متخيّلة وغير صادقة عند البعض، بل ومستلبة من وقائع بائدة.
نجح مصطفى أبو علي وهاني جوهرية وسلافة جاد الله في اللعب على أوتار الغضب الإسرائيلي، وتأجيج الفدائيين الفلسطينيين في معاقلهم في غور الأردن وجنوب لبنان وبعض المخيمات، عن طريق الصور والأفلام التسجيلية التي أنجزوها. لكن، بعد إصابة جاد الله برصاصة في رأسها أدّت إلى شلل نصفي، ومكوث جوهرية داخل استديو صغير للتصوير لعملٍ يحصل بفضله على مردود مالي، إثر احتراق جواز سفره، التحق أبو علي بالثورة الفلسطينية النازحة إلى لبنان أواخر عام 1970، وبدأ العمل بمفرده، ثم تعرّف صدفةً، عام 1972، إلى المُصوِّر العراقي سمير نمر في إحدى قواعد المقاتلين في جنوب لبنان. فتأسّس قسم جديد للتصوير في بيروت، وتحوّلت "وحدة أفلام فلسطين" إلى "مؤسسة السينما الفلسطينية"، قبل مجيء جوهرية إلى بيروت عام 1976، حيث استُشهد.
بعد ذلك، جاءت مرحلة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وحصار بيروت عام 1982، ودخول المخرجين اللبناني جان شمعون والفلسطينية مي المصري على خطّ الأحداث، مع تصويرهما الاجتياح والتصدّع الذي أصاب المجتمع وأفراده، وما رافقه من صدمة وألم بسبب صعوبة نقل الأرشيف إلى أماكن آمنة في المدينة. وهذا أدّى لاحقاً إلى البحث عن الأرشيف المفقود، بعد استقرار مصطفى أبو علي في رام الله عام 2004. ثم تواصل البحث مع المؤلفة خديجة حباشنة أعواماً طويلة، فالأرشيف سرقته القوات الإسرائيلية.
هنا، أصبحت السينما شهادة عن ألم وجرح واجتماع، ومنبراً لتقديم ملامح الجسد الفلسطيني المكلوم في تلك المرحلة. ولأنّ التاريخ يعني النظر أو الشهادة، أصبحت شهادة خديجة حباشنة الأعمق والأجود والأصعب والأكثر وعياً بطبيعة المرحلة، بسبب علاقتها بتلك الأحداث، ما جعل كتابها أكثر موضوعية في مقاربة سيرة الفرسان، خاصة أنّها تعمدت، منذ مقدّمته، التنصّل ـ في تشكيله المنهجي والموضوعي ـ من الأسلوب التقريري المألوف، الذي يجمّد عملية التفكير في الكتابة السينمائيّة، ويجعلها كتابة تنحو إلى الفكر والمساءلة والتحليل. وحباشنة لا تبتغي لنفسها هذا المقام، فهي حريصة على أنْ تروي "قصّة مجموعة سينمائيّة استثنائية وفريدة في ريادتها"، بلغة شفّافة وحقيقية وصادقة، قصّة هؤلاء الفرسان، وما قاموا به بتواضع من أدوارٍ في تشكيل جماليّات وهموم سينما تحمل اسم فلسطين.
لذا، يجد قارئ الكتاب نفسه أمام كتابة متأرجحة بين السرد والسيرة الذاتية والشهادة والرسالة. كتابة أقرب إلى الحياة بعيشها وزخمها، تروم من خلالها إلى نقل المشاكل السياسية والإدارية والمالية اليومية، التي اعترضت سير "وحدة أفلام فلسطين" وتقدّمها، مع حرصها على نقل حيثيات الصراع اليومي بين المُصوّرين الفدائيين وجنود الاحتلال الإسرائيلي. فضلاً عن تضمين الكتاب مجموعة بيانات خاصّة بأفلام ورسائل وقوائم وصُور فوتوغرافية وتسجيلات وملصقات متنوّعة، تعكس مراحل "المؤسسة السينمائية الفلسطينية"، ما جعل الكتاب يتّخذ، في شكله، بعداً توثيقياً تأريخياً لسيرة الفرسان.
لكنّ حباشنة لا تلبث أن تنفلت، أحياناً كثيرة، من طابع سرد الأحداث وشهادات المناضلين، الذين عاشوا مرحلة الثورة، لإبداء رأيها في بعض الأفلام، وميزتها الفنية والنضالية، علماً أنّ هاجس الشهادة في الكتاب يظلّ أقوى.
ما قامت به خديجة حباشنة مجهود مؤسّساتي، يتطلّب صبراً طويلاً وإمكانات هائلة بسبب التنقّل بين دول عربية مختلفة. كما أنّها تحفر في هذه التجربة، لرسم مسار السينما الفلسطينية النضالية، بحرارتها وبراءتها وعنفوانها وقدرتها على اجتراح جماليّات سينمائيّة جديدة، أقرب إلى المشاغل اليومية للمرء، لارتباطها بواقعه ومشاكله السياسية والاجتماعية، في لحظة من لحظات التأزّم والقهر، الذي مارسه الاحتلال، سياسياً وعسكرياً.