"طقوس الربيع" لـ إيغور سترافنسكي... الجمال الجارح

24 ابريل 2022
تمرّ 140 عاماً على ميلاد سترافنسكي (Getty)
+ الخط -

مع ستائر مغلقة، ولما يزيد قليلاً عن الثلاث دقائق، عمّ أرجاء المسرح مزاج غامض، انبثق من آلة باسون منفردة، تعزف بتردد صوتي غير مألوف، لحنًا مشتقًا من لحن شعبي ليتواني قديم، استيقظ على أثره كل من الهورن الإنكليزي، والكلارينيت والفلوت، لتخوض مع اللحن حواريّة هادئة. ومن ثم، تدريجياً، يستفيق المزيد من آلات النفخ الخشبية بتكاسل. ترتفع الموسيقى وفق دفقات واندفاعات، متزامنة مع تكاثف تراكمي مطرد في نسيج الأصوات. هكذا، افتتح إيغور سترفينسكي، في عام 1913، عمله الثوري الجديد، باليه "طقوس الربيع".


رقصة الموت
"طقوس الربيع، بفكرة واحدة، هي غموض التدفق الكبير لقوة الخلق في الربيع". (سترافنسكي)
يحمل الجزء الأول مع العمل اسم "قبلة الأرض". يتكون هذا الجزء من طقوس السلافية القديمة. مقدمة الأوركسترا عبارة عن حشد من مزامير الربيع. ترتفع الستارة على تنبؤات العرافة، وطقوس Khorovod خوروفود (الرقصة السلافية الداثرية)، ولعبة اختطاف؛ إذ يمارس الراقصون من الذكور والإناث، طقوس اختيار الأزواج الوهمية على شكل رقصات اختطاف.

كذلك، نشاهد ألعابًا راقصة تنافسية بين القبائل (تنخرط القبائل في رقصات من التنافس، ثم ينضمون جميعًا معًا في رقصات شعبية)، يقطع كل هذا موكب الحكيم المسن (الشيخ الذي يمنح قُبلة الأرض)، ثم تدب رقصة الخطوات الجامحة البرية على الأرض، لينتهي الجزء الأول. 

في الجزء الثاني، تؤدي العذارى طقوساً ليلية سرية على تلة مقدسة، واحدة منهن سيكون مصيرها أن تكون أضحية الطبيعة، يتلو ذلك طقس تمجيد للفتاة المختارة (رقص على إيقاع مارش صاخب)، ثم يدخل الشيوخ (يرتدون جلد الدب)، فيما تبقى الفتاة/الأضحية وحيدة وجهاً لوجه معهم، ترقص رقصتها المقدسة الأخيرة، فيما يراقب كبار السن رقصتها التي تنتهي بالموت.

 

 

لم يكن إيغور سترافنسكي (1882 - 1971)، معروفاً عندما التقى به سيرغي دياغيليف، مؤسس شركة باليه روس  Ballets Russes، الذي أذهل أوروبا بالثقافة الروسية، بكل ما فيها من غموض وغرابة وإيروتيكية. كان  دياغيليف قد أطلق مشروع باليه روس في عام 1909، وتعاقد مع نيكولاس رويريتش، الرسام الروسي المتخصص في العصور القديمة الوثنية، والخبير في السلافيين القدامى والعالم الإثنوغرافي. وأيضاً، تعامل دياغيليف مع راقصين بارعين، مثل فاسلاف نيجينسكي.

هكذا، تمت أركان باليه طقوس الربيع، إذ كتب كل من سترافنسكي ورويريتش التصور عن العمل، وحدّدا ماهيته كعمل موسيقي راقص وطقوسي، يدور في روسيا الوثنية. بالرغم من عدم وجود سرد معروف للتضحية البشرية بين السلافيين الوثنيين، كتب رويريتش السيناريو كاملاً، واستوحى تصاميم الديكور والأزياء من التراث السلافي القديم. وفي النهاية، صمم نيجينسكي رقصات الباليه بعد اكتمال السيناريو والموسيقى.

 


المشهد الأول
يُرفع الستار على عرافة عجوز، وخلفها مجموعات الراقصين متأهبة لتحتفل بعيد الأرض، معيدة تقديس الرابط المشيمي معها. فجأة، يدوّي لحن ينتمي إلى طابع الـ روك آند رول؛ إيقاعي صاخب وغير منتظم، بصوت استفزازي عالٍ، وبتكرار مثير وإلحاح متنافر، وغير مألوف، خال من اللحنية، ويسوده رتم أوركسترالي بنبر يكرّس طابعًا بدائيًا وحشيًا.

 

كان هذا الدخول صاعقة في تاريخ الموسيقى الغربية، إذ يتصف بالتنوع والتناقض والتباين الدرامي، وعدم التناسق الإيقاعي. كانت هذه الصفات مجتمعة تلخص نقاط ضعف أي عمل موسيقي كلاسيكي. أشعل سترافنسكي بهذا الدخول مسرح الشانزليزيه ضجيجًا واستياءً من العرض المريب والخارج عن التقاليد المعروفة للباليه "الراقي". وفي الوقت نفسه، أشعل فتيل ثورةٍ في الذوق العام، وتنبأ بالآتي من التغييرات العنيفة التي ستلمّ في المجتمع، وبالتالي في الموسيقى الأوروبيّة.


ما وراء الطقوس
في إحدى القرى الروسية الزراعية النائية؛ حيث قضى سترافنسكي الصغير الإجازات مع العائلة، كان الناس لا يزالون قريبين من الأرض، يتفاعلون معها باستمرار، من خلال المواسم المتتاليه، إذ كانت لا تزال مصدر رزقهم الأساسي، ومصدر استقرارهم وفرحهم وخوفهم وتعبهم. هناك، كان يحتفل الناس بطقوسهم الجماعية، بكل ما يملكون من أدوات، فنجدهم يستخدمون أيديهم وأقدامهم وآلاتهم الموسيقية ليدوية الصنع، بأصواتها المختلفة وغير المشذبة، إضافة إلى أصواتهم غير المدربة على الغناء.

 

 

حتى يومنا هذا، نُقدِم على ما يأتي بالفرح، متجاهلين حيثياته ومخرجاته، فكثير من انفعالاتنا الفطرية المدفوعة بالحماس، يرافقها ما يكفي من الضجيج والجلبة لكي تكتمل حالاتها. هذه الفطرية، جعلت من الصعب تجسيد طقوس كهذه باستخدام مفردات موسيقى نهاية القرن التاسع عشر، من دون تجديد وابتكار، خاصة وأن المؤلف نشأ متأثرًا بهذه الطقوس، وينوي أن ينقل تفاصيلها بدهشة الطفل، الذي لطالما راقب الأحداث من ارتفاع ما يقارب المتر وبضع سنتمترات.

استخدم سترافنسكي رقصات ريفية روسية حقيقية، وارتكز على تسعة ألحان شعبية ذات جذور وثنية، بعد أن جرّدها وأعادها إلى شكلها اللحني البسيط. قرّر سترافنسكي الكتابة للأوركسترا الحديثة، ولكن بطرق مبتكرة، بغية مقاربة أصوات الآلات البدائية، يدوية الصنع. كان اهتمامه مركّزًا على الآلات المستبعدة من الأدوار الرئيسيّة في الأوركسترا، وذلك ليتمم مزاج الغرابة والتصويرية والإدهاش.

لم يكن اللحن بشكله المطروق والمعروف هو الهدف، بقدر ما كان لون الصوت، وتوظيف الآلة في دورها الدلالي المسرحي المناسب، وفي دورها الطقسي؛ إذ تبعث أجواء الرهبة والاستهجان، وأيضًا الدور النفسي الذي من شأنه أن يهيئ الجمهور لنوع المادة التي هو في صدد تلقيها، وبالأخص طقس القربان أو التضحية.

على طول العمل، تخلّى سترافنسكي عن اللحنية في سبيل الإيقاع، حتى الأجزاء البطيئة، ارتكزت على أساس إيقاعي ثقيل. كيف لا؟ والإيقاع حامل جوهري في أي موسيقى شعبية؛ إذ يعزز روح الجماعة ويذيب المستمع في الصخب العام. كانت كل عناصر العمل ناتئة وحادة، الهارمونية والضغوط الإيقاعية وترددات الآلات وكذلك حركات الراقصين على المسرح، فأكثر حركات الجسد انسيابيةً، كانت مكسّرة تعتمد اظهار مفاصل الجسد.

وعلى غرار ذلك، كان القوام الإيقاعي للرقص متداخلًا مع عمل الأوركسترا الشاق؛ فنرى الراقصين يتقافزون، ويضربون خشبة المسرح بأرجلهم وأيديهم، ليشبكوا العمل ببعضه بعضاً، رقصًا وأداء موسيقيًا، فالراقصون على المسرح كانوا يؤدون رقصات مختلفة، كل منهم على حدة، بما يوازي مجموعات الأوركسترا التي قُسّمت إلى أجزاء تعمل بنفس الآليه المسنناتية-التكعيبية؛ إذ إن سترافنسكي تعمّد عرض كل الألحان بشكل دوري تراكمي؛ أي أن يظهر أحد الألحان ومن ثم يتراجع للخلف فاسحًا المجال للحن آخر، وهكذا دواليك، بحيث نحصل بالنتيجة على كتلة ألحان متوازية، وصلت من خلالها الأوركسترا إلى أعلى درجات التعبيرية، كما في رقصة تمجيد الأضحية، حيت تخرج الأصوات كأنها إيماءات بكماء تنطق بالمعنى مجردًا من القول.

نثر المؤلف آلات الأوركسترا كرسائل للحياة، التي تدب رويدًا في البراعم والبيوض والشرانق، وفي الجذور والديدان التي تشق طريقها في الأرض. هكذا، نسمع أزيز أجنحة، ودبيب أرجل متناهية في الصغر، نتنبّه إلى ما هو أدق من أصوات الطيور، وأوسع من ألوان الطيف وأكثر تعبيرًا عن مشهد الطبيعة النازف بالحياة.

تستدرجنا الموسيقى رويدًا رويدًا، حتى توقعنا في فخ حالات صوتية دنيوية مستفزّة ومشحونة بالتنافر، وتقحمنا فعليًا في صخب الحياة المتواري عنا، صخب الطبيعة الحقيقي والقاسي، البدائي والوحشيّ المشذّب، المجرّد والبعيد عن الأنسنة الرومانسية. قدم لنا سترافنسكي العسل مع النحل اللاسع، الوردة الملونة العطرة ولم يغفل أنها لاحمة، اتجه حدس المؤلف إلى الجمال بشكله المدبب والجارح معًا... الجمال الرمادي الطبيعي.

المساهمون