"شارع فاير فلاي"... صديقتان تكبران وتصغران معاً

11 فبراير 2021
نختبر مع الفتاتين قصص الخذلان والنجاح في مسار حياتيهما (نتفليكس)
+ الخط -

ليس من السهل بناء علاقة متينة بين شخصين، تقاطعت بينهما ظروف أسرية واجتماعية قاسية، من مرحلة المراهقة حتى بلوغ سنوات اليأس. هذه العلاقة ليست محكومة بالمثالية بالطبع، لكن العراقيل والصعوبات التي تعترض أية علاقة، من شأنها أن تخلخل متانتها، وفي مكان آخر، تعيد بناءها، أو بالأصح توازنها، وتزيد من ثباتها حين تكون الصداقة في أساسها، صالحة ومناسبة بغض النظر عن الظروف المحيطة، التي لن تعتبر مقياسًا لحساب نجاح هذه العلاقة أو فشلها بالنسبة لبطلتي مسلسل "شارع فاير فلاي" FIREFLY LANE الأميركي (نتفليكس)، تالي هارت (الممثلة كاثرين هيغل) وكيت مولاركي (الممثلة سارة تشالك).

ذلك أن بناء العمل القصصي، مرتبط بتوجيه قضايا عامة وخاصة، لها تأثيرات بالغة الأهمية والحساسية على الإنسان المراهق والناضج معًا. ولتوثيق هذه القضايا والمواضيع الاجتماعية، وتأثيرها على سلوك الإنسان وحياته، كان لا بد على الرواية أن تنقسم إلى ثلاثة أزمنة واقعية في البناء السردي للعمل. تتنقل بطلتا العمل والشخصيات الثانوية، في ما بينها، وفق مراحل تكوينية تمس بشكل مباشر بشخص البطلتين وسلوكيهما وتطورهما لتغذية العلاقة نفسيًا وعاطفيًا، بشكل متسلسل ألغت معها عنصري المفاجأة والدهشة اللذين يلزمان العمل ليظهر بشكل أفضل مما هو عليه.

بدا التقسيم المشهدي والمونتاج الدرامي سلوكًا يجاري الحالة النفسية والاجتماعية الطاغية أكثر من الحالة الإبداعية في عملية التوصيف البصري والسردي للمسلسل. وعليه، كان التركيز على المراحل العمرية للبطلتين، مذيلة بمحاور وسياقات تبني العقدة الدرامية فيها، يعتمد على مدى وقع العنصر الزمني في خلق حالة تشتيت وتعقيد درامي. 

في مرحلة المراهقة، أي في بداية السبعينيات، تنطلق مغامرة كل من تالي وكيت. مغامرة بنيت على فاصل نفسي جمع بين البطلتين اللتين تحملان طباعًا متناقضة، تكمّل نواقصها ما تفتقره إحداهن لدى الأخرى. فرضية كلاسيكية لبناء قصة عن واقع المراهقات. فتاة جميلة وقوية وذات شعبية وطموحة، تعيش حالة انقسام وضياع بين جدتها وأمها الهيبية. هذه الأخيرة لها التأثير الأكبر على سلوك ابنتها وشخصيتها، نظرًا إلى ما تفتقر له من حس المسؤولية والاهتمام. وأخرى لطيفة وهادئة وتعيش ضمن أسرة كاملة الأفراد، ولكنها منبوذة لا أصدقاء لها، وتعيش ضمن عالم خاص بها.

هذه المعادلة خلقت جوًا حميميًا صادقًا بين الصديقتين، نختبر معهما قصص الخذلان والنجاح في مسار حياتيهما، خذلان تستعيض عنه كيت بحيوية ونشاط وعبثية تالي التي انعكست طباع كلاود، والدة تالي، عليها، وتملأ به الفراغ والرتابة والزيف الذي يخيم على جو أسرتها. وهو ما تجد به تالي، على النقيض من صديقتها، ما يملأ حياتها التعيسة والفوضوية مع والدتها. للزمن النفسي التأثير الأكبر ليخلق من هذه المتناقضات عاطفة دافئة بين البطلتين. ليس فقط من جهة كيت وتالي الناضجتين، بل أيضًا بين الشخصيتين البديلتين اللتين أدتا دور المراهقتين.

تنقسم الرواية إلى ثلاثة أزمنة واقعية في البناء السردي للعمل

تتزاحم الأحداث بشكل متناسق ومتدرج، وتعزلنا عن أي مغزىً موارب في سياق العمل، ولكن لا بد من التنبه إلى بعض القضايا الحساسة التي كان من شأنها أن تصوغ هدف المسلسل بشكل مباشر، لا يتعلق فقط بالتربية والتنشئة الأسرية وسلبياتها. فالحاضر له وقع كبير في نفوس البطلتين. وعندما نقول الحاضر، أي عام 2003 (الزمن القصصي). 

فالاختبارات النفسية أمام واقع مختلف يفرض قوانينه وأساليبه في تحديد خيارات البطلتين، تنشأ خارج حدود الخذلان والنجاح، وتصب في خانة الأنا. حيث النوازع النفسية والشخصية تعكسان مصير قراراتهما وتضعها في مواجهة مع الزمن وتقلباته وتقدمه. فمع بلوغ سن اليأس تصبح الصورة أوضح والقرارات التي اتخذت في ما مضى من شأنها أن تفرض عملية حسابية على الصعيد السلوكي والمستقبلي.

مثلاً، حياة عالم الإعلام التي تبنّتها كل من كيت وتالي ليشكلن بها مستقبليهما، تفرّع عنها مساران متناقضان يتعلقان برؤية كل بطلة نحو المستقبل. فعندما تنجح تالي في اختيار أسلوب حياتها كمقدمة برامج عزباء، تنخرط كيت في حياة زوجية وأسرية، ستفشل لاحقًا، بعد أن استمرّت 14 عاماً.

سينما ودراما
التحديثات الحية

تنهار جميع القرارات والحسابات الشخصية المتعنتة، لتغرق البطلتان بعدها في وضع تلقائي لملء الفجوات من خلال اتخاذ خيارات أخرى، تسهم في رأب الهشاشة النفسية التي فرضتها عوامل خاصة زمنية ومجتمعية. مدة عقد ونصف من الأمومة والابتعاد عن مهنتها محررة صحافية، تكفي لتضع كيت بعد طلاقها وقرار عودتها للعمل، في مواجهة شرسة مع التطور الإعلامي والرقمي والتكنولوجي طوال فترة انقطاعها المهنية من ناحية، وتأثير العلاقات العاطفية الدخيلة على حياتها وحياة ابنتها المراهقة من ناحية أخرى.

بينما، في المقلب الآخر، ستستدرك تالي التغيرات الجسمانية والانعزالية الرومنسية التي انتهجتها طوال فترة شبابها مقابل حرية العلاقات الجنسية العابرة، وفشلها في استغلال فرصة سانحة لتكوين أسرة بعد نشوء علاقة عابرة بينها وبين شاب يصغرها بعقدين تقريبًا، طلبها للزواج عقب حملها منه، إلا أن لغة الجسد في عمر الأربعين لها مفاهيمه الخاصة، فرفض الجنين ورفضت هي بدورها الاستمرار بهذه العلاقة الزوجية العاجلة لتندم لاحقًا على هذا القرار.

هذا التناقض والتصاعد المتزامن في وتيرة الأحداث المتقاطعة بين حياتي البطلتين فيه توثيق، على الصعيد العاطفي، لحجم الصداقة بين البطلتين؛ ما يولد ثنائية متناغمة تمنح العمل في سرديته هذه انطباعاً دافئًا وحميميًا عبر تفاصيل حياتية منسوجة بنكهة كوميدية وعاطفية، أضفت الحس الواقعي على العمل، والحس التأملي نحو صورة نساء تجاوزت أعمارهن عتبة الأربعين. يقارعن أزماتهن ومشاكلهن النفسية والحياتية يدًا بيد.

المساهمون