"حواجز إينشرين": تمثيلٌ يعكس انسجام الأضداد

24 أكتوبر 2022
برندن غْليزِن وكولين فاريل: حِرفية أداء وروعته (الملف الصحافي)
+ الخط -

في جديده "حواجز إينشرين"، يتناول البريطاني ــ الأيرلندي مارتن ماكدونا (1970)، كاتب المسرح والسيناريو والمخرج المتميّز، قصة صداقة حميمة بين رجلين، تتحوّل فجأة، على نحو مُركّب ومُعقّد، إلى عداوة عنيفة. وذلك في تناول سينمائي درامي صادم وحادّ ومؤثّر للغاية. لذا، يُعتَبر الفيلم من أعمق ما قدّمه ماكدونا مؤخّراً، وأكثر أعماله تشويقاً وإثارة، من دون التخلّي عن السمات المُميّزة له، حيث قتامة الموضوع، المُطعَّم بكوميديا سوداء، مشحونة بقدر من الفلسفة والعبث، والتأمّل في طبيعة البشر وسلوكياتهم، وردود أفعالهم غير المُتوقّعة.

تتمحور الأحداث حول قصة تفكّك/انفصال، غير رومانسي أو جنسي، بين صديقين، وصعوبة تخلّص أحدهما من الآخر. الانفصال أو الطلاق بين البالغين، والخصام بين الأطفال والمُراهقين، تُسبّب كلّها اضطراباً وتمزّقاً وارتباكاً ووحدة. بينما ما يُفترض به أنْ يحصل يكمن في المُحافظة على الصداقات الفعلية وتعميقها، لا سيما بين الكبار الناضجين. أو، بكياسةٍ، السماح لها بالتلاشي والموت التدريجي، إنْ استحال الإبقاء عليها. لكنْ، إجمالاً، كيفية إنهاء الصداقة بين الرجال، في الواقع، أكثر تعقيداً وإرباكاً من إنهاء زواج أو ارتباط عاطفي. فالرجال عامة غير مُهيئين، فكرياً وعاطفياً، للتعامل مع الفكرة بحدّ ذاتها. على أي حال، الدراسات النفسية والتناول الفني الجاد، المُتعلّق بصداقات الرجال والانفصال بينهم، نادرة أو غير عميقة، إجمالاً.

"حواجز إينشرين" ـ الفائز بجائزة أفضل سيناريو في الدورة الـ79 (31 أغسطس/آب ـ 10 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ تدور أحداثه في عشرينيات القرن الماضي، في جزيرة صغيرة مُتخيّلة اسمها "إينشرين"، ذات مُجتمع بطريركيّ مُحافظ وساكن ومُملّ، يقع غربي أيرلندا، في فترة اندلاع الحرب الأهلية. التفصيل المُتعلّق بالحرب الأهلية، الدائرة أحداثها بعيداً عن الجزيرة، تُلمَس آثارها في لقطات بعيدة لدخان مُتصاعد، وأصوات انفجارات، بين حين وآخر. بينما يخوض رجلان، من سكّان الجزيرة، حرباً أهلية مُختلفة ومُصَغَّرة، تكاد لا تختلف عن تلك الدائرة بعيداً.

يومياً، عند الثانية ظهراً، يعرج بادريك (كولين فاريل) على كولم (برندن غْليزِن)، أفضل صديق له في العالم، كي يذهبا معاً إلى الحانة. يعيش بادريك، الراعي وعامل الألبان، في كوخ مُتواضع، مع أبقاره وخيوله، وحماره المحبوب جيني. كولم، الأعزب والوحيد إلا من كلبه، أكبر سناً من كولم، وأكثر تحفّظاً ورصانة. يعشق كولم الموسيقى، ويهوى العزف على الكمان. من أبرز الشخصيات الثانوية في عالم بادريك، شقيقته العزباء الرزينة شيبان (كيري كوندون)، وصديقه دومينيك (بِري كوغان)، أحمق الجزيرة، وابن ضابط الشرطة البغيض، بيدر كارني (غاري لايدِن).

في افتتاح الفيلم، يُقرّر كولم، ببساطة، أنّه لم يعد يرغب في صداقة بادريك بعد الآن، ولا يُريد مُجالسته، بعد أعوامٍ مديدة من احتساء البيرة معاً، يومياً. يرغب كولم في الابتعاد عنه، وفي عدم تبادل أيّ كلمة معه. السبب المُعلن، بعد إلحاح، إدراكه أنّ أيامه باتت معدودة، والموت يقترب منه، فلم يعد يرغب في إضاعة مزيدٍ من الوقت في التحدّث إلى شخصٍ سخيف ومُزعج وفارغ الذهن ومُملّ. وأنْ لا رفاهية، بعد اليوم، في "الكلام بلا هدف". في البداية، يُعارضه بادريك، مُعتبراً أنّ حديثهما جيّد وطبيعي وهادف. بادريك، المُنزعج ثم الغاضب، يُصرّ على التحدّث إليه، ما يدفع كولم إلى الإعلان، بغضب، أنّه سيقطع أصابعه مُقابل كلّ مُحاولة من جانب بادريك.

بادريك، الصادق بشكل مُؤلم ومُضحك معاً، والمُتصالح مع نفسه والحياة، يتوسّل إلى كولم مراراً لإفهامه سبب انتهاء صداقتهما، لا سيما أنّ خياراتهما محدودة للغاية في قريتهما الصغيرة هذه. بطرق عدّة، يجهد كولم في أنْ يشرح لصديقه السابق أنّه ليس قيمة مُضافة إلى حياته، وأنّ الحياة قصيرة للغاية، وأنّه يُفضّل فعلاً التركيز على مهاراته كموسيقيّ، حتى يمكنه فعل شيءٍ أخير مهمّ في حياته، كتأليف مقطوعة موسيقية، ربما تعني شيئاً، يوماً ما.

هذا التغيير المُفاجئ، والإصرار عليه بقوّة وقسوة، لا يُحيِّر بادريك ويُربكه فقط، بل يُزعزع استقراره تماماً. تظهر التداعيات تدريجياً، عندما يفشل في مُلاحظة أنّ صداقته لم تعد مرغوبة. ثم يُقرّر أنّ كولم يمرّ في حالة اكتئاب عميق، وأنّه هو نفسه بات ضحيةً لاكتئابه المُتصاعد. يُلاحق صديقه بشكل هستيري في أنحاء الجزيرة، ويشرع في مُحادثات حميمة معه، كما لو لم يحدث أي شيء، ما يدفع كولم إلى تنفيذ تهديده. هنا، يرفع الفيلم رهانه على تقديم عالم مُرعِب، ينزلق تدريجياً إلى دوامة من الوحشية المُتصاعدة، والمُفجِّرة للجحيم في الجزيرة الريفية الصغيرة.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

سيناريو الفيلم، الحاد والذكي والبارد في قسوته، يطرح أفكار مارتن ماكدونا ببراعة وعمق وسهولة، عبر شخصيات مُركّبة، مرسومة بحرفيّة شديدة. كما أنّه يخلط الأفكار معاً، من دون تعقيد، بمسحات من العبثية الممزوجة ببسيكولوجيا الأنا الذكورية المُتضخّمة، إذ يؤدّي الكبرياء الذكوري المسموم، والمشاعر الجريحة، إلى إيذاء النفس والعدوان والدموية، وإنْ كانت هذه الأفعال المُنفلتة مدفوعة أساساً بحبّ صادق ومُخلص. المُثير للانتباه، ليس تركيز السيناريو على فكرة الكراهية والنبذ فقط، بل أيضاً عمق الشعور بالوحدة والعزلة والغربة. هذه الخلطة المُركَّبة، المطروحة برمزية واضحة بشدّة، مصحوبة أيضاً بمُقارنة غريبة ومؤلمة بين عالمين مُتجاورين، عالم البشر وعالم الحيوانات المُحيطة بهم، فالحيوانات أكثر لطفاً وسلاماً ووئاماً، قياساً مع البشر. وهذا، في إحالة أخرى جلية إلى الحرب الأهلية الأيرلندية، أو الحروب والنزاعات البشرية عامة.

اللافت أيضاً في السيناريو أنّ المخرج يُقدّم بادريك وكولم كرجلين غير مُؤهّلين للتعامل مع مواقف عاطفية كهذه. كما أنّه من غير المحتمل أنْ يكونا فكّرا بعمق في علاقتهما الممتدة أعواماً طويلة. لا أسباب ولا تبعات لما حدث بينهما مُؤخّراً، نظراً إلى أنّ المُحادثات العادية عن الحمير والشائعات المحلية كانت تملأ أيامهما. بجلاء، يتعاطف نصّ مارتن ماكدونا، بذكاء، مع كليهما، من دون التورّط في إدانة أحدهما، أو الانحياز إلى أحدهما على حساب الآخر.

أمر سيحتار المُشاهدون بشأنه، وسينقسمون حوله بشكلٍ مُثير للاهتمام. هناك من سيُؤيّد حقّ كولم أو رغبته البسيطة، أو حتى الهوس المُتزايد في أنْ يكون بمفرده. وهناك من سيُشفق على بادريك، ويتفهّم رُعبه من فكرة النبذ والهجر. يزيد من هذه الحيرة والانقسام والاستقطاب، ويعمقّها كلّها الأداءُ التمثيليّ الرفيع جداً لكولن فاريل، وتقمّصه الصادق لأبعاد الشخصية المُركّبة والمُعقّدة، فاستحق عن دوره هذا جائزة "كأس فولبي لأفضل مُمثل" في "لا موسترا 2022". وأيضاً أداء برندن غْليزِن شخصية كولم، بكل برودها وزهدها وتصميمها، وإصرارها على تنفيذ رغبتها.

ورغم الأحداث المُتقلّبة والصادمة، والصراع والكراهية المتأجّجين بين الصديقين، بدا جلياً أنّ فاريل وغْليزِن يتمتّعان بانسجام الأضداد، بدرجة مُحسوسة بقوّة، لا تدفع المُشاهد أبداً إلى كراهيتهما، بل إلى احترامهما وتفهّمهما، وربما حبّهما. هذا ساهم كثيراً في وصول الشخصيتين إلى المُشاهدين، ودفع الحبكة قدماً إلى مزيد من العُمق والمصداقية والأصالة، ومن الغرابة أيضاً.

المساهمون