"بي بي سي" والأميرة ديانا... عمرُ الفضائح طويلٌ

26 مايو 2021
الأميرة ديانا في المقابلة مع مارتن بشير (Getty)
+ الخط -

تعيش هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" أزمةً كبيرة، تتخلّلها استقالات واعتذارات وانتقادات، رسمية وإعلامية وشعبية، على خلفية الاتهامات لها بالتدليس والخداع والتغطية على تلك الممارسة المرتبطة بمقابلتها الشهيرة مع الأميرة ديانا، وسط ضغوط قوية لتحسين سمعتها وإصلاح طريقة عملها، أدت بها إلى إعلان أنّها "تراجع سياساتها التحريريّة".

25 عاماً حتى الحقيقة
يوم الخميس الماضي، توصّل تحقيق إلى أنّ الصحافي السابق في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" مارتن بشير (58 عاماً) الذي استقال أخيراً من "بي بي سي" لأسباب صحية، استخدم "سلوكاً خادعاً" لإجراء مقابلة مثيرة للجدل مع الأميرة ديانا عام 1995، في "انتهاك خطير" للوائح الهيئة الإعلامية، وأنّ الهيئة تستّرت على الأمر.

وخلال المقابلة التي أجراها برنامج "بانوراما" قبل 25 عاماً وشاهدها أكثر من 20 مليون مشاهد في بريطانيا، أحدثت ديانا صدمة عندما اعترفت بأنّها دخلت في علاقة، وذكرت تفاصيل عن زواجها بولي العهد البريطاني الأمير تشارلز. وأكدت الأميرة، التي توفيت سنة 1997 في حادث سيارة في باريس خلال محاولة سائقها الهرب من عدسات قناصي صور مشاهير كانوا يطاردونها، خلال المقابلة وجود "ثلاثة أشخاص" في زواجها، في إشارة إلى العلاقة التي كان يقيمها زوجها آنذاك الأمير تشارلز مع كاميلا باركر بولز. وأقرّت الأميرة أيضاً بأنّها تقيم علاقة مع رجل آخر. وقادت هذه التصريحات إلى طلاق تشارلز وديانا.

استخدم مارتن بشير التدليس لخداع ديانا بهدف إجراء المقابلة 

وأعلنت "بي بي سي" في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي أنّها عينت القاضي الكبير السابق جون دايسون، ليقود التحقيق الداخلي، بعدما جدد تشارلز سبنسر، شقيق ديانا، الشكاوى من استخدام الصحافي مارتن بشير، وثائق مفبركة وأساليب غير صريحة أخرى لإقناع ديانا بإجراء المقابلة. وزعم سبنسر أنّ بشير عرض مستندات مصرفية مفبركة على صلة بسكرتير شقيقته الخاص السابق، وعضو آخر سابق بالبلاط الملكي، بهدف الوصول للأميرة.

تناول تحقيق دايسون احتمال ما إذا كانت تحركات اتخذها بشير قد أثرت في قرار ديانا بقبول إجراء المقابلة. وبحث أيضاً في ما كانت تعرفه "بي بي سي" عن "البيانات المصرفية المزيفة" التي زعم تشارلز سبنسر أنّ بشير قدمها. ووجد تحقيق دايسون، الذي خرج تقريره إلى العلن في 126 صفحة، أنّ بشير، الذي كان آنذاك مراسلاً غير معروف، أظهر لسبنسر بيانات مصرفية مزورة تشير إلى أنّ ديانا كانت تخضع لتنصت أجهزة الأمن وأن اثنين من كبار مساعديها كانا يتقاضيان أموالاً لتقديم معلومات عنها.

انتقد التقرير طريقة إدارة "بي بي سي" التي اعتذرت لاحقاً، لهذا الملف ورغبتها في طمسه. إذ وجد التحقيق أنّ هيئة الإذاعة البريطانية أخفقت في تحقيق "معايير النزاهة والشفافية العالية التي تتسم بها"، وقدمت الهيئة اعتذاراً مكتوباً إلى قصر باكنغهام. وورد في التقرير أنّه بعد بث المقابلة، كذب بشير مراراً على رؤسائه في ما يتعلق بكيفية تمكنه من إجراء المقابلة. ومع استمرار الأسئلة، فشل مديرو الهيئة في التحقق من روايته للأحداث على النحو الملائم وتستروا على الحقائق.

تستّرت "بي بي سي" على مارتن بشير وحاولت طمس القضية


انتقادات
سارع نجلا الأميرة الراحلة إلى توجيه الانتقادات بعد نشر التقرير. واتهم الأمير البريطاني وليام هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بخذلان والدته الأميرة ديانا وتسميم علاقتها بوالده الأمير تشارلز، بعد التحقيق. وقال وليام (38 عاما) في بيان: "أرى أن الطريقة المخادعة التي أجريت بها المقابلة أثّرت بشكل كبير على ما قالته والدتي. أسهمت المقابلة كثيراً في جعل علاقة والديّ أسوأ وأضرت من وقتها بآخرين لا حصر لهم". وأضاف: "إنه لأمر يبعث على حزن لا يوصف أن تعرف أن نقاط خلل في بي بي سي أسهمت بشدة في ما أصابها من خوف وارتياب وعزلة أتذكرها من تلك السنوات الأخيرة معها".

وقال وليام إنه كان على هيئة الإذاعة البريطانية تحري الأمر على النحو الملائم عندما أثيرت المسألة أول مرة عام 1995. وأضاف أن الأميرة ديانا "لم يخذلها مراسل مارق فحسب، ولكن قيادات في BBC أدارت وجوهها بدلاً من أن تطرح الأسئلة الصعبة". وأضاف أن "نقاط الخلل هذه التي حددها صحافيون استقصائيون لم تخذل والدتي وعائلتي فقط، بل خذلت الشعب أيضاً".

الأمير وليام: الأميرة ديانا لم يخذلها مراسل مارق فحسب، ولكن قيادات في BBC أدارت وجوهها بدلاً من أن تطرح الأسئلة الصعبة

وفي بيان منفصل صدر في نفس التوقيت، لم يشر هاري، أخو وليام، إلى BBC بالاسم، لكنه وجه نقداً أوسع لوسائل الإعلام و"للتأثير المتواتر لثقافة الاستغلال والممارسات اللاأخلاقية التي قضت في النهاية على حياتها". وقال هاري (36 عاما) الذي يخوض بالأصل معارك قضائية ضد وسائل إعلامية بريطانية مع زوجته ميغان ماركل: "لأولئك الذين أخذوا شكلاً من أشكال المحاسبة، أشكركم. تلك هي الخطوة الأولى صوب الحق والعدل". وأضاف أن "ما يقلقني بقوة أن مثل تلك الممارسات، وما هو أسوأ منها، لا تزال مستشرية اليوم. الأمر، وقتها والآن، أكبر من أن يكون منحسرا في منفذ واحد أو شبكة واحدة أو وسيلة نشر واحدة".

وبعد الضجة الكبيرة التي أثارتها القضية، أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستدرس الحاجة إلى إصلاح قواعد الحوكمة في "بي بي سي" في ظل تساؤلات عن تمويلها من خلال رسوم حكومية ومحاولة لندن تعيين حلفاء من المحافظين فيها. وقال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون: "آمل حقا أن تتخذ بي بي سي كل الإجراءات الممكنة لضمان ألا يتكرر مثل هذا الوضع أبدا".

وبعدما قررت في آذار/مارس الفائت عدم فتح تحقيق، أكدت شرطة لندن أنها ستدرس "أي دليل هام جديد".

الحكومة البريطانية ستدرس الحاجة إلى إصلاح قواعد الحوكمة في "بي بي سي"

اعتذارات واستقالات
صرح مدير "بي بي سي" ريتشارد شارب، أنّ المؤسسة تقبل نتائج التحقيق، مضيفاً "كان هناك فشل غير مقبول". ويضع تقرير دايسن "بي بي سي" في وضع صعب، بحسب المسؤول عن تغطية وسائل الإعلام في المجموعة أمول راجان، الذي قال: "هناك وزراء الحكومة، وكلّ العناوين الرئيسية في الصحف تقريباً، ومسلخ الشبكات الاجتماعية، وملك بريطانيا المستقبلي وشقيقه، جميعهم تكتلوا ضد بي بي سي".

واعتذر جون بيرت، المدير العام لـ"بي بي سي" في زمن المقابلة، لتشارلز سبنسر في بيان. وقال: "نعلم الآن أنّ بي بي سي أوت مراسلاً فاسداً... فبرك تقريراً مفصلاً ومعقداً، لكنّه كاذب بالكامل في تعاملاته مع سبنسر والأميرة ديانا. هذه وصمة صادمة على وجه التزام بي بي سي الراسخ بالصحافة الصادقة، وهو أمر شديد الأسف استغرق 25 عاماً لتظهر حقيقته كاملة".

اعتذر ريتشارد شارب وجون بيرت وتوني هول بعد نشر التقرير

كما استقال توني هول، الذي كان يدير هيئة التحرير في "بي بي سي" عند إجراء المقابلة النارية المثيرة للجدل مع الأميرة ديانا عام 1995، من منصب رئيس متحف "ناشونال غاليري" في لندن السبت الماضي، بعد نشر تقرير مستقل ينتقد التحقيق الداخلي الذي أجري بشأن هذه المقابلة. وقال هول في بيان: "استقلت اليوم من منصبي كرئيس لناشونال غاليري" مجدداً اعتذاره عن "الأحداث التي وقعت قبل 25 عاماً".

وكان مراسل الشؤون الملكية روبرت جونسون من القلائل الذين هبوا لنجدة "بي بي سي" إذ قال عبر قناة "سكاي نيوز" إنّ المقابلة، رغم الأسلوب "المحزن" الذي اعتمدته، سمحت للأميرة ديانا بقول الحقيقة كما كانت تريد.

رد مارتن بشير
بشير، الذي كان محرراً للشؤون الدينية، في "بي بي سي" منذ عام 2016، ترك المؤسسة الأسبوع الماضي لدواعٍ صحية، وهو يعاني من مضاعفات خطيرة بعد إصابته بكوفيد-19.

والأحد، نقلت صحيفة "صنداي تايمز" عن بشير نفيه مسؤوليته عن سلسلة من الأحداث أدت إلى وفاة ديانا. ونقلت الصحيفة عن بشير اعترافه باستخدام بيانات مصرفية مزورة قال التحقيق إنّها جزء من خداع الأميرة ديانا. وقال للصحيفة: "أنا نادم بشكل واضح على ذلك، لقد كان خطأ. لكن لم يكن له أيّ تأثير في أيّ شيء. لم يكن له أيّ تأثير عليها (ديانا) ولا على المقابلة".

ورداً على سؤال لصحيفة "صنداي تايمز" أبدى مارتن بشير "عميق الأسف" تجاه نجلي الأميرة؛ وليام وهاري. وقال بشير: "لم أرغب أبداً في إيذاء ديانا بأيّ شكل من الأشكال ولا أعتقد أننا فعلنا ذلك". وأضاف: "لا أشعر أنّني يمكن أن أتحمل مسؤولية العديد من الأشياء الأخرى التي حدثت في حياتها والقضايا المعقدة المحيطة بتلك القرارات" مضيفاً: "يمكنني أن أتفهم الدافع... لكنّ تحميلي أنا فقط مسؤولية المأساة والعلاقة الصعبة بين العائلة المالكة ووسائل الإعلام يبدو أمراً غير منطقي بعض الشيء. أعتقد أنّ الإشارة إلى أنّني مسؤول بشكل فردي غير معقولة وغير عادلة".

صاحب المقابلة مارتن بشير اعترف باستخدام بيانات مصرفية مزورة قال التحقيق إنّها جزء من خداع الأميرة ديانا لكنّه نفى مسؤوليته عن الأحداث التي أدت إلى وفاتها

وأوضح بشير: "أنا وعائلتي كنا نعشقها" كاشفاً أنّ الأميرة ديانا زارت زوجته إثر إنجابها طفلهما في المستشفى كما نظمت حفلاً لمناسبة عيد ميلاد أحد أطفاله في قصر كنسينغتون. وأبدى بشير أسفه لعرضه كشوف حسابات مزيفة، لكنّه قال إنّ هذه الوثائق "لا علاقة لها البتة" بالتصريحات التي أدلت بها الأميرة ديانا خلال المقابلة وأكدت فيها وجود "ثلاثة أشخاص" في زواجها. وقال بشير: "لا أظن أنّ من الممكن تحميلي المسؤولية عن أمور كثيرة كانت تحصل في حياتها ومشكلات معقدة كانت تحيط بهذه القرارات". وأشار إلى أنّ المقابلة جرت وفق الشروط التي وضعتها الأميرة ديانا التي قال إنّه بقي على صداقة معها بعد اللقاء التلفزيوني.

كان مارتن بشير صحافياً مغموراً في تلك المرحلة، لكنّ هذه المقابلة فتحت أمامه أبواب النجاح إذ أتيحت له بعدها مقابلة نجوم كثر، من بينهم خصوصاً مايكل جاكسون. وقدّم "ملك البوب" الراحل إثر هذه المقابلة شكوى أمام الهيئة الناظمة لقطاع المرئي والمسموع في بريطانيا، اتهم فيها مارتن بشير بتقديم صورة مشوهة عن سلوكه كأب.

فضائح أخرى
تُغرق هذه التطورات بشأن المقابلة الجدلية بعد أكثر من ربع قرن على عرضها، المجموعة البريطانية العملاقة في مجال الإعلام في أزمة جديدة تضاف إلى مشكلاتها المتكررة بسبب الاتهامات الموجهة لها في بريطانيا بنقص الموضوعية، كما حصل في تغطيتها لبريكست، أو باعتماد أسلوب نخبوي، أو بمحاباة العائلة المالكة وعدم الاكتراث لما يريد الشعب البريطاني أن يشاهده، وهو ما ظهر في آلاف الشكاوى التي وصلت إلى الهيئة بعد وفاة الأمير فيليب، زوج الملكة إليزابيث. 
وهذه ليست الفضيحة الأولى التي تهز "بي بي سي" بعدما حاولت المؤسسة قبل سنوات إخماد فضيحة تحرش جنسي بأطفال طاولت نجمها السابق جيمي سافيل، كما واجهت انتقادات بسبب اتهامها زوراً أحد السياسيين المحافظين بارتكاب انتهاكات جنسية.

وتأتي هذه الزوبعة في مرحلة حساسة لـ"بي بي سي" التي تسعى إلى التحديث لمواجهة التحديات المترتبة عن العادات الجديدة للجمهور ونجاح منصات المشاهدة المدفوعة مثل "نتفليكس". كذلك، قررت "بي بي سي" المنخرطة في خطة عصر نفقات واسعة تلحظ الاستغناء عن مئات الوظائف، نقل جزء من إنتاجها إلى خارج لندن بهدف "تحسين تمثيل" التنوع المناطقي. كما تعهدت "بي بي سي" باتخاذ إجراءات مسلكية تصل إلى الطرد في حق الموظفين الذين "يخلّون بواجب الحيادية المفروض عليهم في منشوراتهم" على تويتر.

وتواجه المجموعة أيضاً انتقادات داخلية من موظفين على خلفية المساواة في الرواتب، خصوصاً قضية الفجوة الجندرية في أجور النساء، والتي أدت بالهيئة إلى الذهاب للمحاكمة.

المساهمون