"بيوت مهجورة" لمحمد رضا عباسيان: أمكنةٌ تُعبّر عن وجعها

28 مايو 2021
"بيوت مهجورة": دمار وأناس يحاولون استعادة الحياة (الملف الصحافي)
+ الخط -

تنجذب الكاميرا نحو الدمار. لعلّ التحدّي يجذبها. المنظر واحد. لا تنويعات كثيرة على الخراب. مناظر تبدو، للوهلة الأولى، متكرّرة. أكوام إسمنتية فوق بعضها. مبانٍ مدمَّرة. جدران مخترقة برصاص. سقوف واقعة ومعلّقة في الهواء. مناظر لدمار بيوت غادرها سكّان، عودتهم مؤجّلة أو ملغاة، بل ربما مستحيلة الآن. مناظر مؤذية للعين والنفس، تتتابع لأكثر من ساعة.

لمَ تترك الأطلال هذا الأثر القوي؟

"بيوتٌ مهجورة" (2021، 78 دقيقة)، للإيراني محمد رضا عباسيان ـ المعروض في "سوق الفيلم"، في الدورة الـ52 (15 ـ 25 إبريل/ نيسان 2021) لـ"مهرجان رؤى الواقع ، نيون (سويسرا)" ـ يُحيل عنوانه الفارسي إلى ذلك، في تجوّله بصمتٍ على الأطلال. لا تفسيرات ولا إدانات. لا أجساد ولا ضحايا. كأنّ الضحية هنا هذه البيوت التي دُمِّرت فيها الحياة. لا شروح. إشارةٌ فقط إلى أسماء الأمكنة. الدمار واحد لأمكنةٍ غابت ملامحها، ورُحِّلَ سكّانها. ربما يصعب تمييزها لولا ذِكْر أسمائها.

الصورة وثيقةٌ على فظاعة الحروب. لغةٌ أشدّ تعبيراً وأكثر بقاءً. منها يُستوحى الكلام، وبفضلها يُستكمَل البحث. هذا فعلته صُوَر الحروب السابقة. "بيوتٌ مهجورة" وثيقة نادرة على فظاعة ما جرى، وأثرِ ما حدث. ليست أسبابه ومُسبّبيه، رغم إشارة في بدايته إلى "الحرب السورية الأهلية، حيث ضحايا ومهجّرون، وتدخّلات حكومات أجنبية عدّة، وآلاف المقاتلين من بلدان أخرى". هذا تجنّبٌ لحساسيات ليست في صميم اهتمام الفيلم، المنصبّ على الأطلال في "نظرة شاعرية على وجع الحرب السورية، مع ضوء أمل في الربيع، ونهاية شتاء الحرب، حين يتجلّى ازدهار في إعادة الإعمار"، كما يقول ملخّصُه، وكما عنوانه بالفارسية، حيث إيحاء إلى أجواء تسود الأمكنة بعد خلوّها من المقاتلين، كأنّها ارتاحت وركنت إلى سكينة حزينة.

عباسيان، مخرج الفيلم ومنتجه ومُصوّره، يلجأ إلى أسلوب متشابه في افتتاحياته، أكانت المشاهد في حمص أو ريف دمشق أو حلب القديمة. تُستلُّ بلقطةٍ عامة ثابتة لشيءٍ أثار انتباهه، لسببٍ ما. غرابته، فظاعته، إيحاءاته. منه، ينتقل إلى لقطةٍ مقرّبة، تبرز تفاصيل فيه، ثم يضع ما التقطه في إطاره العام: شارع، بناية، مساكن؛ تاركاً للمكان التعبير عن وجعه بأشكاله وأصواته: نباح كلب شارد، صرير ريح، حفيف شجر، صلصلة معادن، صياح أولاد من بعيد. أحياناً، يترك للموسيقى (سياماك سبهري) الدور لتُعبّر بشجنٍ عن أطلال حياة، في دورة الفصول التي يسير الفيلم على إيقاعها كذلك.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

الافتتاحية في شتاء حمص وحيّ الخالدية. هضبة من ركامٍ اختلطت فيها مكوّنات دمار. طوابق تنتظر وقوعاً أبدياً، وأخرى ثابتة تُقاوم في مكانها. نادراً ما يعبر أحدٌ، وحين تلتقط الكاميرا رجلاً من بعيد، لا تقترب منه. يبدو ككائنٍ فضائي في مكان غريب، حيث لا صوت إلا قرقعة الأشياء التي تحرّكها ريح حمص، كأنّها قرقعات طناجر في مطبخٍ، أو أيّ شيء مُنفلت في هذا الشارع المدمّر بالكامل. يصوّب المخرج عدسته على شيء مُحدّد، يدرسه من كافة زواياه، كهذا السقف المعلّق في الهواء: ما الذي يُمسكه عن الانهيار؟ لِمَ لَمْ يقعْ؟ لِمَ بقي طابقٌ واحد من بناية صامداً وحده، كأنّ حرباً لم تَحُم حوله، فيما قضت على كلّ ما عداه؟

في المليحة بريف دمشق، دواخل انكشفت. هذا حمام زهري. هذا مطبخ مفتوح على شرفة مفتوحة على شارع. هذا المسبح في مطعم المرسى، مع كلّ هذه الرصاصات التي اخترقت السيراميك الأزرق. لا بُدّ أنّه شهد معركة حامية. أشجار مرعبة بلا رؤوس، في أرض شاسعة. بنايات، قدرها واحدٌ، تلك التي تجمّلت واجهاتها بالرخام، وتلك العارية منه، في مكانٍ تساوى فيه الذين كانوا يملكون بالذين لا يملكون.

في الراموسة مطر على معادن صدئة. حسين خلّد اسمه على حائط. قميص عَلِق بسلكٍ، وبساط حاكته يومٌ يدٌ ماهرة، وحصيرة. تقترب العدسة من بجعات ملوّنة، تثير فضولاً، غالباً ما لعب المخرج عليه، ليبتعد عنها شيئاً فشيئاً، فيتبيّن أنّها زيّنت يوماً آنيةً كبيرة. دمار الزبداني غطاء خادع للبصر، بثلوج ناصعة لم تُوَحّلها قدمٌ، تضيء بياضه شمس باهتة في سماء زرقاء، ينعق فوقه غراب. في البيوت، عبرت رصاصات غير طائشة، استقرت آثارها. في الأعالي، أحجار معلّقة في أسلاكٍ. لوحات تجريدية لا يقرّبها من الواقع سوى حركة إنسان يمشي في البعيد، وسيارات تمرّ بين حين وآخر.

هل سيأتي الربيع؟ ها هو في المليحة، حيث كروم العنب، وعلم ممزّق يرفرف، وشيء من حياة مع عصافير تزقزق، ودكّان سمانة "غذائيات الصالحاني" صامدة في بناية تهدّم معظمها. عودة حياة على الشرفات المغطاة بستائر قماشية. طفلتان تعبران، وعمّال يُصلحون بيوتاً، ورجال يجلسون أمام كومة خراب، في ما كان يوماً محلاً تجارياً. تنكات زرّيعة، وأم تعبر مع 3 أطفال، وأصواتٌ ـ تأتي دائماً من بعيد ـ لأطفالٍ يلهون، أو لغناء شجي يتغلغل عبر نافذة مخلوعة: "يا قلبي لا تتعب قلبك".

ذابت الثلوج في الزبداني، لكنّ شقائق النعمان والأراضي المخضرّة، مع كل ما يحيط بها، لا تنجح في بعث الأمل. ملامح عودة، وعدسة تقترب أكثر، وإنْ بقيت على مسافة من مظاهر الحياة، كفتاةٍ تقفز بحبلها. حمص الخالدية بقيت في الربيع كما في الشتاء، باستثناء عائلة عائدة، تتفقّد بيتاً، كان يوماً هنا. في حلب، آثارٌ تُرمَّم، وفي ريفها، أولاد يلعبون، ودجاجات تسرح، وفتاة من بعيد تحدّق بالكاميرا. في الراموسة، انبعث صوت فيروز يشدو "فايق يا هَوَا، لما كنّا سوا"، و"موعدنا بُكرا، وشو تأخّر بُكرا"، على وقع خطوات فتية يتراكضون وراء كرة، في مَشاهد بعيدة، وكاميرا تنأى عن التطفّل.

المساهمون