قبل أيام قليلة، عرض "المعهد الثقافي الفرنسي" في مدينة فاس المغربية فيلم "بابيشة" (2019) للفرنسيّة ـ الجزائرية مونيا ميدور، ضمن برنامج سينمائيّ مُخصّص لعرض أفلامٍ عربية. اللافت للانتباه أنّ الفيلم ممنوع عرضه في الجزائر، رغم أنّ وزارة الثقافة الجزائرية اختارته رسمياً لتمثيلها في مسابقة "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي حينها، بينما يعرضه المغرب الذي يُعتبر أحد أكثر البلدان منعاً وتعنّتاً وقسوة واضطراباً ورقابة بخصوص الأفلام والعروض، إذْ "تُصنّف" الجهات الرسمية الأفلام بالـ"مخلّة" للمعتقدات والعادات والتقاليد المغربيّة، مع أنّ هذا الـ"مُخلّ" يظهر دائماً في الاجتماع المغربي عند جهاتٍ رسمية، وبشكلٍ آخر غير الذي نعرفه.
عرض "بابيشة" ليس شجاعة سينمائية، كما اعتبرتها منابر إعلامية، بل لأهميّته وقيمته كشهادة بصريّة، توثّق لحظة مهمّة في التاريخ المعاصر للجزائر، مع أنّ فيلماً واحداً لا يكفي لترميم جراح، وتوثيق قصص، وتأريخ صُوَر ودماء ومشاعر في "عشرية سوداء"، أدخلت الجزائر في حربٍ أهلية دمويّة، وسراديب مظلمة، وأفق سياسي مغلق ومُجهَض.
هذا واضحٌ بدرجات سينمائية مختلفة في "بابيشة"، إذْ تبدو الأجساد مُنهكة، والحرب متأجّجة بين حماة التقاليد ورافعي شعار الحداثة، الذين يرغبون في العيش وفق مُستقبل مغاير. الحلم جميل، لكنّه عسير. الواقع الجزائري مُكهرب، لا يحتمل حلماً. هناك أطياف تاريخ سُلطويّ عربي مُتجذّر في التخوين، ويلتهم الحاضر، ويكاد يُقضي على أيّ ابتسامة أو فرح أو نشوة أو حياة. الرغبة في تملّك التاريخ قوية لدى مونيا ميدور، لكنّ التماهي معه بصرياً ضعيف.
جماليّات "بابيشة" تبدأ من اللحظة التي تُحاول فيها نجمة (لينا خودري) الانتفاض على واقع مزر، بتصميم أزياء عصرية وشبابية، إذْ تحرص ـ بأدواتٍ بسيطة ـ على جعل الواقع قضيّتها، رغم صغر سنّها. تجهد في مُواجهة ميثولوجية واقعها، بما فيه من عاداتٍ وتقاليد متجذّرة ومُستوطنة في مخيال الاجتماع الجزائري، قديماً وحديثاً. الطالبة نجمة لا تزال في ريعان شبابها، في تسعينيات القرن الماضي. عشقها للحياكة والأثواب وصناعة الأزياء تجعلها تحلم بالشهرة، وبعيش حياةٍ مغايرة، في مجتمع متأزّم.
وفقاً لهذا العنصر الحكائي، ترصد مونيا ميدور حياتها في الجامعة والبيت والشارع والعائلة، لإقامة طباق أيديولوجي بصريّ مُتناقض، بين ما يحلم المرء به، وما عليه أنْ ينصاع له، سُلطةً ومُعتقدات وحياة. ورغم لجوئها إلى عناصر بصريّة، تُمدِّد ميدور الحكاية، وتجعلها تتشابك مع الواقع وكيان التاريخ.
لكنّ الصورة، في بعض المَشاهد، هشّة وغير قادرة على التقاط حساسية "العشرية السوداء" في صورة سينمائية، بأعطابها ومآزقها ونتوءاتها. التفاصيل مُغيّبة، والتكرار قائمٌ في كليشيهات خطابية. عدم التدقيق في الحوار يجعله باهتاً وتلقائياً، ورتيباً أحياناً. إلاّ أنّ براعة أداء الممثّلات تجعل المَشهد حميمياً، وأكثر التحاماً وتأثيراً في مُخيّلة المُشاهِد. فالصورة تُظهِر أكثر ممّا تُضمر، وتروم إلى صوغ سرديّة جسد أنثويّ حالم، يُحاول الثورة على كلّ ما هو تقليدي، يتمثّل في فكر ماورائي، يصبو إلى جعل اللحظة الراهنة امتداداً عميقاً له.
سينمائياً، تطرح مونيا ميدور علاقة فكرية مُتشابكة بين الصورة وما يُعرف بـ"سينما الحدث" التي توجّه الصورة في "بابيشة"، وتُخضعها لشروطها الايديولوجية والفنيّة والجماليّة. هذا النوع السينمائي يغوص في الأرشفة والتأريخ والتوثيق، لكنّه يحضر لدى المُخرجة باعتباره ملاذاً للتخييل، وإعادة إنتاج حكاية مُتخيّلة، تجهد في التماهي مع الأصل.
الحدث مجرّد إطار، أو مُحرّك خفيّ للأحداث، يُموضعها في ذهن المُشاهِد؛ والصورة السينمائية تقتنص الحدث، وتُفتّته بصرياً على شكل مَشاهَد، وتشذِّره على شكل قصص صغيرة، كل واحدة منها ترتبط بشخصية معيّنة، وفي النهاية تلتقي وجودياً، وتعود تخييلياً إلى الحكاية الأصلية، المُتمركزة سينمائياً في شخصية نجمة. إذْ رغم ما في الحكاية من حلمٍ وجماليّات وتخييل، تقف سريعاً عند سياج واقع مُلتهب، أعنف وأقوى وأكبر من أيّ ذرة تخييل، فيعثر المرء على صُورٍ سينمائية مُتأرجحة بين عالمٍ واقعي وآخر تخييلي.