"القفص الداخلي": إبهار سينمائي في عتمة السجن

07 فبراير 2022
"القفص الداخلي": مبارزة تمثيلية في علاقةٍ إنسانية (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

ماذا يحدث لو غادرَتْ إدارةُ سجنٍ موقعها، وتركَتْ السجناء وحدهم؟ بصوغٍ أبسط: ماذا يجري لو أرخَتْ الإدارة قبضتَها على السجن، وتركته لمجموعة حراسٍ يتدبّرون أمورهم مع سجنائهم؟

هذان سؤالان افتراضيان، يطرحهما المخرج الإيطالي ليوناردو دي كونستانزو (1958) على نفسه، وعلى ما فيهما من فرضيات متخيلة، تؤسّس نصّ روائيّه الجديد، "القفص الداخلي" (2021)، محاولاً عند التنفيذ بثّ روحٍ واقعية فيه. روح سينمائية سحرية، يوحي ساحرها أنّها متطابقة مع الواقع، وأنّ أحداثها حقيقية، لعلّها جرت يوماً في سجن إيطالي بعيد ومعزول في وادٍ عميق. الحياة فيه، لو نُظِر إليها بعين كاميرا سينمائية، ستبدو كعرضٍ مسرحي، السجناء والمساجين أبطاله، والسجن خشبته. وسط مساحته الضيقة والخانقة، يتحرّك الممثلون. وفي الكادرات السينمائية، يبدون طيوراً محبوسة في قفص.

المنظر الخارجي للسجن، بالطبيعة المحيطة به، منقول في مشهديّات باهرة. التصوير (لوكا بيغازي) يُبقي على جمالها، حتّى عند دخول كاميرته إلى عتمة المكان. مَسْحُ ألوانها أحياناً، والاكتفاء بالأسود والأبيض، يريد بهما دي كوستانزو، القادم من الوثائقي ـ "وتيرة الخداع" (2011) و"قضية كتاب مدرسي" (2017) ـ كسرَ أيّ تماهٍ مُحتَمل الحدوث، بين السرد الروائي (المتخيل) والمتفرّج. يتعمّد، في زمن السرد كلّه (107 دقائق)، مقاربة المكان وثائقياً، بجعله يُشبه واقعاً مُصوَّراً.

في مُفتتح "القفص الداخلي" ـ المعروض في قسم "رحلة"، في الدورة الـ45 (28 يناير/كانون الثاني ـ 6 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان غوتنبرغ السينمائي"، يحتفل موظّفو السجن، إلى جانب أسواره، بمناسبة صدور قرار إغلاقه ونقل سجنائه إلى مراكز أخرى. بعد قليل، يُطلب منهم مقابلة مديرته لأمر مهمّ، إذ تقرّر إبقاء سجناء قليلين فيه، بانتظار توفّر أمكنة شاغرة في سجون أخرى تقبل بهم. تُغادر المديرة ومعظم الموظّفين، وتترك إدارته المؤقّتة إلى مفتّشين قدماء، بينهم غارجيولو (الممثل الإيطالي ساطع الحضور توني سِرْفيلّو).

يبلغ دي كونستانزو لحظةً تخيّلها مع كاتبي السيناريو برونو أوليفيرو وفاليا سانتِّلاّ، مُثبِّتاً عبرها فكرته عن السجن، ورؤيته للعلاقة المختلّة بين السلطة (النظام القضائي) والسجين. يسخر من مفهوم "الإصلاح"، مُستبدلاً إياه بـ"العقاب"، الذي يلغي كلّ احتمال لنشوء علاقة إنسانية بين السجين والسجّان. معانداً الواقع، يخلق النصّ فرصة نادرة لإقامة علاقة كهذه، مع وضع شخصية أخرى في مقابل المفتّش، توازيه درامياً، وتختصر بحضورها القوي فكرة العقاب. الممثل سيلفيو أورلاندو يؤدّي دور السجين كارمِن لاجُويا، المافياوي العجوز، القادر ـ بخبرته والكاريزما الخاصة به ـ على تحريك السجناء. يحمل الاثنان ثقل تجسيد علاقة بينهما، تتشكّل من بُعد، وفي ظرف خاص، تغيب فيه السلطة المركزية، وترتخي قبضات ممثليها. الاثنان يمثّلان ببراعة لافتة للانتباه، فحضورهما آسر.

في لحظةٍ نادرة، يجد الجميع أنفسهم في وضع ملتبس، صنعه قرار إداري فوقي، وتركهم في حيرة لا يعرفون ما يفعلون إزاءه. ارتباكاتهم تسمح لهم بإعادة صوغ علاقات إنسانية، لا توفّرها السجون عادة، بل تُفتّتها بإتقانٍ محكم ومُكتسب تاريخياً من سلطات متحكّمة، وجدت في السجون منافي داخلية. المنفيون لا يبرحونها، بل يبقون فيها طويلاً، تحت سيطرتهم، وأمام أعينهم.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

للوسيط المُساعد في تفاعل العلاقة المُتخيّلة طرفان: الأول صبيّ مُراهق يُدعى فانتاتشيني (بياترو جوليانو)، مُشوّش نفسياً، ومتّهم بجريمة لا يعرف ملابساتها ولا كيفية تورّطه بها؛ والثاني: الطعام الإيطالي. الشخصيات الأخرى تمثّل عينات تقليدية لسجناء من مشارب مختلفة، مع مسألةٍ تُفرّقهم عن بقية تحضر في معظم أفلام السجون: الابتعاد كثيراً عن العنف. لا يُخفون غضبهم بسبب تركهم معلّقين في هواء سجن ثقيل (العنوان الأصلي الإيطالي: "هواء ثقيل")، ولا يعرفون مواعيد زياراتهم، ولا إلى أين، ومتى سيغادرون السجن. بدأوا يشعرون بأنّ السجن لم يعد مكاناً يصحُّ توصيفه بتلك الصفة. إدارة السجن تشعر أيضاً بثقل وجودها من دون مرجعية سلطوية. غيابها يُصعّب عليها مهمّة التحكّم بالمكان، كما في السابق. وسط الفوضى واللايقين، تنشأ علاقات جديدة، مردّها الحاجة إلى الآخر، الذي لم يعد متمسّكاً بتوصيفاته السابقة.

يعرف السجين العجوز كيف يستغلّ هذا، ليفكّ حصاره الداخلي. السجناء مثله يريدون تمضية الوقت من دون مشاكل. يقترح، بعد إضرابه عن الطعام بسبب رداءته، أنْ يتولّى بنفسه تحضيره. يقبل المفتّش، لكنّ زملاءه يُعارضون دخوله إلى المطبخ. الطعام سيكون مدخلاً إلى فهم أنساق علاقات مجتمعية وثقافية إيطالية، عميقة الجذور. الجلوس إلى المائدة في المنازل تعبير مُكثّف عنها. يكشف الإيطاليون عن رغبتهم في وحدة داخلية، تعاند خارجاً مُفكّكاً لها. المفهوم الإيطالي الشائع، "العائلة أولاً"، يجد تعبيره الأبسط فيها. يجد المفتّش ـ البعيد عن عائلته ـ في الصبي السجين ما ينقصه. يحنّ عليه، ويعامله كابنٍ له. سلوكٌ يتعارض مع صرامة ظاهرة، تُخفي ليناً داخلياً، يلتقطه السجين العجوز، وبدلاً من استغلاله لصالحه، يُشاركه تعاطفه مع الصبي.

الاثنان يقودهما الوجود المنفتح إلى التعبير عن جوّانيات دفينة، تشي باحترام وتقدير أحدهما للآخر، بينما تفصح تفاصيل المكان وحشةً وعزلةً مؤلمتين. في السجن، ليس هناك ما يجمع السجناء. كلّ واحد منهم ينسج شبكة حول نفسه. المشهد اليومي للسجن يعزّز تلك العزلة المتعمّدة الوقوع. الخروج منها يعني نهاية زمن النفي. السجن في "القفص الداخلي" لن يكون أبداً بوابةً إلى حريةٍ وحكمةٍ تصقلها التجربة، ما دام كلّ سجين يعيش وحدته القاهرة. المشهد المنقول لحظة مغادرة الصبي المكان، في طريقه إلى المحكمة، يُكثّفها. توديع السجناء له يبدو كأنّهم يودّعون أبناء أو أحبة لهم، يمضون نحو نهاية سعيدة.

نهاية كتلك التي تعمّمها موسيقى رائعة (باسْكوَالي شالو)، تجمع ألحاناً من ثقافات مختلفة، كالسجون، وتتركها تتدفّق في مسار درامي مذهل في ديناميكيته، يُذكّر بمنجزه الوثائقي الجامع موسيقات العالم في الشوارع والمدن الإيطالية: "أوركسترا بياتزا فيتّوريو: يوميات العودة" (2007).

المساهمون