"إرخاء القبضات": تَمَثّل السجون في الذات

25 مارس 2022
ميلانا أغوزاروفا بين كيرا كوفالينكو وألكسندر ردنيانسكي في "كانّ" 2021 (فاليري هاشي/فرانس ب
+ الخط -

بعد حصولها على دبلوم في التصميم الفني، ارتادت المخرجة الروسية كيرا كوفالينكو ورشة دراسة السينما، بتأطير من ألكسندر سوكوروف، في جامعة كبردينو بِلْكاري (مسقط رأسها)، إلى جانب المخرج الشاب، فائق الموهبة، كنتِمير بالاغوف، مخرج "ضيق" (2017). أخرجت كوفالينكو أفلاماً قصيرة عدّة أثناء دراستها في الورشة، قبل أنْ تحقّق فيلمها الطويل الأول، "صوفيتْشكا"، المقتبس عن قصّة للكاتب الأبخازي فاضل اسكندر.

"إرخاء القبضات"، فيلمها الطويل الثاني، المتوَّج بجائزة "نظرة ما"، في الدورة الـ74 (6 ـ17 يوليو/تموز 2021) لمهرجان "كانّ"، من إنتاج المخضرم ألكسندر ردنيانسكي، الذي تدين له السينما الروسية بأكثر أفلامها نجاحاً في المهرجانات وصالات السينما، في الأعوام الأخيرة، أبرزها أفلام أندريه زفياغينتسيف.

آدا (ميلانا أغوزاروفا) شابّة تعيش في مدينة مناجم، في جمهورية أوسيتيا الشمالية (منطقة القوقاز، في أقصى غرب روسيا الاتحادية)، رفقة أخيها الأصغر، المتعلّق بها إلى درجة الالتصاق المزعج، تلبيةً لرغبة دفينة، ترى فيها تعويضاً عن أمّه المتوفّاة، ووالدها الصارم، الذي يبالغ في مراقبتها وحمايتها، إلى حدٍّ يخنق أنفاسها اللاهثة في الجري على الطريق الفاصل بين المتجر، حيث تعمل، وموقف الحافلات، لتترقّب كلّ يوم قدوم أخيها الأكبر، الذي نجح في الإفلات من سطوة الأب، بذريعة البحث عن عمل في روستوف.

يتميّز الفيلم عن عشرات أفلام البلوغ، أو التعلّم، التي تنجز سنوياً، حتى أضحت شبه موضة سينمائية، ذات حبكة منمّطة وبنية مقولبة. تميّزه كامنٌ في أنّه يجعل من منحى تحرّر آدا من سطوة الأبوية المتسلّطة وسيلة لاستكشاف واقع معقّد، يرتكز على بنية اجتماعية محافظة، تسحق الفرد، وتجعله غير قادر على التعبير عن مكنون شعوره. هذا العجز التام عن التواصل يتطوّر إلى عنفٍ، تظهر تجلّياته في قسوة الحوار والتصرّفات، ما يُترجم عدم قدرة الشخصيات على التجاوب مع محيطها وتحدّياته، ويُفسّر لازمة العراك بين الأجساد، والاشتباك بالأيدي والأبدان (الالتصاق، القبض، التطويق، الضمّ، دفع الآخر لإبعاده، أو لإسقاطه أرضاً، أو لجرّه، أو لحمله)، التي تعبُر كلّ المَشاهد، سواء كانت صراعاً بين الشخصيات، أو التجارب القليلة لفرحها، أو اللحظات النادرة للحبّ (مشهد ممارسة آدا للجنس مع صديقها بطريقة مُتشنّجة، رغم أنّ العلاقة رضائية).

بعودة الأخ الأكبر ـ الذي يلعب دور الوسيط، لقدرته على مجابهة الأب بضرورة منح آدا أوراق هويّتها، وتحريرها من قبضته الخانقة، التي تتملّكها بشكل مرضي، حدّ حرمانها من العلاج كي لا تقوى على مفارقته ـ تتضح، شيئاً فشيئاً، معالم خطّ الحكي الثانوي، الذي يجعل الجميع، بمن فيهم الأب (لا نيّة لأنْ يُصنَع منه وحشاً)، ضحايا نسق اجتماعي غير سوي، وماضٍ قاسٍ قوامه قلاقل، وتوتّرات عرقية، وحروب أهلية عرفتها منطقة القوقاز، تُعبّر عنها إشارة آدا إلى أنّ الندوب في بطنها تعود إلى فترة الطفولة، وتعرّضها لانفجار في المدرسة، أثناء عملية احتجاز رهائن.

 

 

تساهم طبيعة القوقاز، الجبلية القاسية، وبرودة الطقس، في صنع أجواء خانقة، تبرع الكاميرا في التقاط صلافتها، بلقطات طويلة غالباً، تنمو فيها وتيرة الصراع والدراماتورجيا بشكل تصاعدي آسر. يتّخذ الإخراج أيضاً من الإضاءة وسيلة لإضفاء مناخات تعبيرية على المَشاهد، كما في مشهدٍ يُشكّل ذروة الفيلم، حين تنفجر آدا في وجه الأب مع عبور السيارة في نفقٍ، تغمره إضاءة حمراء قانية، ما يُرخي على المشهد مناخاً جهنمياً، يُعزّزه الأداء الملتبس لميلانا أغوزاروفا بنظرةٍ وتجلٍّ شيطانيّين، كأنّ العائلة تعيش كابوساً ينبعث من باطن الهواجس الدفينة، التي لطالما دفنتها وسكتت عنها، ويُحيل ـ في هذا القوس العابر ـ إلى جمالية نوع "جيالّو" الإيطالي، في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته.

لا يُنسى أيضاً اشتغال كيرا كوفالينكو على الشريط الصوتي بشكل خلّاق، كما في مشهد مصارحة آدا شقيقها الأكبر بعدم قدرتها على تحمّل العيش تحت سطوة الأب، بينما يلهو شقيقهما الأصغر على الدرّاجة النارية في الجوار، مُقترباً منهما بين فينةٍ وأخرى، فيطبع ضجيج الدرّاجة لمسة توتّر واضحة، تفضح اضطراب الدواخل، وتستشرف الخلافات المقبلة.

من أهمّ نقاط قوّة "إرخاء القبضات"، إيحائية السيناريو (ليوبوف مولمينكا وأنطون يروتش وكوفالينكو)، الذي يقتصد في الحكي، مُفصحاً تدريجياً عن مفاتيح الحكي، في الوقت المناسب، حفاظاً على الغموض الضروري. أهمّ هذه المفاتيح سرّ المحفظة الجلدية، الذي ينكشف في الثلث الأخير من الفيلم، مانحاً قراءة أبلغ للشرط القاسي لحياتها. هناك أيضاً جوّ من الاختلاط في البداية، يوحي بفرضية جنس المحارم، قبل أنْ تتبدّد الفرضية مع توضّح الرهان، ما يؤشّر إلى بنية فيلمٍ، يفسح مكاناً لتفاعل المُشاهد مع الطّرح. سمةٌ تحضر في الأفلام الكبيرة فقط.

هناك عناصر كثيرة في أسلوب كوفالينكو، تدلّ على تأثّرها بمدرسة سينما الحقيقة، و"الواقعية القوقازية"، أهمّها أنّ جُلّ طاقم التمثيل مُكوّن من غير المحترفين، واختيار الديكور ينمّ عن حرص على تصوير قسوة الحياة في المدينة، وضعف الإمكانات المُتاحة أمام الشبان للعمل أو الترفيه. بينما يظهر الإصرار على إدراج الحوارات باللغة الأوسيتية ـ رغم أنّ السيناريو مكتوب بالروسية في مرحلة أولى ـ على التمسّك بأصالة الحياة في أوسيتيا، وصدقها.

تُعرب كوفالينكو عن إخلاصها لتوصيات معلّمها سوكوروف بأهمية الحساسية الأدبية، حين تصرّح أنّ الفكرة الأولية لـ"إرخاء القبضات" مُقتبسة عن رواية "دخيل في التراب" لويليام فوكنر، خاصة العبارة التي ظلّت تشغل تفكيرها لأشهر: "بينما يُمكن لبعض الناس تحمّل العبودية، لا أحد يستطيع أنْ يطيق الحرية". ذلك أنّ الفيلم، في العمق، بديعٌ، يتناول المعاقل الرهيبة والمنيعة التي تتكوّن في الدواخل، والتي تشهر قضبانها ما إنْ ينشأ السعي إلى التحرّر من السجون الخارجية.

المساهمون