"أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي"... كله حدث بالفعل

28 اغسطس 2022
تكتسب زيارة أم كلثوم التاريخية إلى باريس مكانة خاصة (فرانس برس)
+ الخط -

بالرغم من كثرة ما كُتب عن حياة السيدة أم كلثوم عموماً، وعن نشاطها لدعم "المجهود الحربي" عقب هزيمة يونيو/ حزيران 1967 على وجه الخصوص، إلا أن الأوساط الفنية في القاهرة، والمهتمين بسيرة سيدة الغناء وتاريخها، قابلت صدور كتاب "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" بحفاوة كبيرة، ولا سيما بعد أن فوجئ القراء بضخامة العمل (600 صفحة)، وعظم الجهد التوثيقي الذي بذله الباحث كريم جمال، إذ استطاع المؤلف أن يستغني عن بئر الإشاعات التي ينضح منها محررو الصفحات الفنية في العالم العربي، فكان محقاً ودقيقاً حينما قال في مقدمته: "إن كل حكاية في هذا الكتاب قد حدثت بالفعل، وكل معلومة أو جملة حوارية أوردتها كان مصدرها تحقيقاً صحافياً أو تلفزيونياً رافق السيدة في سنوات المجهود الحربي". 

موسيقى
التحديثات الحية


في مواجهة الهزيمة
يرصد الكتاب تفاصيل الحملة الضخمة التي نهضت بها أم كلثوم عقب "النكسة"، وتمثلت في جانبين: الأول؛ مادي، يهتم بجمع أكبر قدر من الأموال لدعم الجيش المصري، استعداداً لمعركة تحرير الأرض، والثاني؛ معنوي، يتمثل في إثبات قدرة الشعوب العربية على الصمود والمقاومة وتجاوز آثار الهزيمة. ولا ريب أن تداخل "السياسي" مع "الفني" خلال هذه السنوات قد بلغ ذروة لم تعرفها أم كلثوم في مسيرتها الطويلة. نعم، كانت تواكب بغنائها الأحداث الكبيرة لوطنها مصر، وللأمة العربية. لكن الأمر اختلف هذه المرة، إذ الجهد كله، والغناء كله، والنشاط كله، سيصبح مسخّراً لخدمة قضية واحدة، وعبر عدة سنوات متصلة، رغم المرض وتقدم السن.

ومع الإقرار بالأبعاد السياسية الكبيرة لهذه الحملة، إلا أنها لم تكن لتلقى ما لاقته من نجاح، لولا المكانة الفنية والجماهيرية التي تمتعت بها أم كلثوم في بلاد العرب، ولولا سطوة صوتها النافذ إلى كل قرية عربية. فالحملة لم تقم على أداء الأغنيات الوطنية أو السياسية، وإنما قامت كلها على الأغنيات العاطفية المعتادة من كوكب الشرق، مع توجيه إيراد الحفلات إلى المجهود الحربي غالباً، أو لرعاية مهجري مدن القناة أحياناً، أو حركة فتح كما حدث في حفل ليبيا.

وإجمالاً، يمكن تقسيم هذه الحفلات إلى قسمين: داخلي: وشمل أربعة محافل كبرى، في مدن دمنهور والإسكندرية والمنصورة وطنطا، وخارجي: وشمل ثمانية محافل جاءت على الترتيب في كل من باريس والمغرب والكويت وتونس والسودان وليبيا وبعلبك وأبوظبي. وقد خصص المؤلف فصلاً لكل محفل، تناول فيه خلفيات الإعداد له، ومدى الإقبال الجماهيري والتجاوب الشعبي مع جهود أم كلثوم، كما رصد بدقة إيرادات المحافل وإجراءات التبرع بها.

وقبل بدء هذه الحفلات، كانت أم كلثوم قد قادت حملة كبيرة للتبرع بالذهب والحليّ. وعندما جاء شهر أكتوبر/ تشرين الثاني، كانت السيدة قد نجحت في جمع أكثر من مائة كيلوغرام من الذهب. أي ما تتجاوز قيمته بأسعار اليوم مائة مليون جنيه مصري.

لكنها أدركت أنها تملك ما هو أغلى من الذهب. تملك هذا الصوت الجبار، الذي يحظى باحترام وتقدير كل الشعوب العربية. فليتحول فنها إذن إلى سبائك ذهبية، وأموال طائلة، وروح معنوية تساند بها أمتها في هذا الوقت العصيب. ولاستيعاب مقدار ما تبرعت به السيدة من إيراد حفلاتها، فمن الضروري أن نتذكر أن غرام الذهب من عيار 21 كان ثمنه في حدود نصف جنيه مصري، فحين تتبرع أم كلثوم بإيراد حفل جمعت فيه 10 آلاف جنيه، فهذا يعني أنها تبرعت بما يساوي 10 كيلوغرامات من الذهب.


انطلاقة دمنهور
يستهل كريم جمال رصده لتلك الليالي الفنية التاريخية باستعراض تفاصيل محفل دمنهور، مساء 17 أغسطس/ آب من عام 1967، أي بعد 48 يوماً فقط من بيان تنحي الرئيس جمال عبد الناصر، والإقرار بالهزيمة المرة التي أصابت مصر والأمة العربية.

يقول المؤلف: "على أرض مركز شباب دمنهور، وعلى مساحة ما يقرب من ثمانية آلاف متر، صُمّم مسرح كبير يليق بالسيدة أم كلثوم؛ إذ حضر في تلك الليلة أكثر من 3500 مستمع من تلك المدينة وما جاورها، بعد أن دفعوا 38 ألف جنيه ثمناً للتذاكر. وبعد أن انفرجت الستارة، صعد محافظ البحيرة وجيه أباظة ليسلم السيدة شيكاً بالمبلغ".

لكن الأمر لم يقتصر على إيراد الحفل، فقد تسلمت السيدة 30 كيلوغراماً من السبائك الذهبية، جمعها العمال والفلاحون بالمحافظة. غنت أم كلثوم في وصلتها الأولى "أمل حياتي" في ساعتين، وغنت في الثانية "فات المعاد" في ساعتين ونصف. ومن الغريب أن تسجيلات هذا الحفل ما تزال إلى اليوم من المفقودات الكلثومية.

وفي صباح اليوم التالي، زارت السيدة المستشفى الأميري بدمنهور، لتفاجأ بأن طاقم المستشفى قد أعد لها شيكاً قيمته 10 آلاف جنيه. وقد شهدت هذه الليلة تغييراً مهمّاً في نظام محافل سيدة الغناء، فقد أقنعها المحافظ بالاكتفاء بوصلتين فقط لا ثلاث، ووجه للجماهير كلمة قال فيها إن "أم كلثوم ثروة قومية يجب الحفاظ عليها". ومنذ تلك الليلة، تخلت أم كلثوم عن نظام الوصلات الثلاث، حتى آخر حفل في مسيرتها، ولم تخالف هذا التغيير إلا في محفلي باريس، حيث غنت ثلاث وصلات كل ليلة. غادرت أم كلثوم دمنهور وقد جمعت أكثر من 75 ألف جنيه.

بعد 14 يوماً فقط من حفل دمنهور، أحيت أم كلثوم محفلها في الإسكندرية، على مسرح ضخم أقامته المحافظة في استاد المدينة، وبحضور 12 ألف مستمع، وقد سبقها إلى الحفل بعثة تضم ستة من خبراء التليفزيون الفرنسي، أوفدتهم وزارة الثقافة الفرنسية لتصوير الحفل تليفزيونياً، استعداداً للقاء السيدة المنتظر على مسرح الأوليمبيا في باريس.

تجاوز إيراد الحفل 64 ألف جنيه، مع 40 كيلوغراماً من الذهب، جمعها تجار الصاغة في الإسكندرية، إضافة إلى تبرعات مختلفة أوصلت حصيلة الليلة إلى 400 ألف جنيه مصري، سلمتها كلها السيدة أم كلثوم إلى مندوب بنك القاهرة، الذي يرافقها في حفلاتها.

وفي الوصلة الأولى، غنت أم كلثوم "أنت عمري" في 62 دقيقة، وفي الوصلة الثانية غنت "الأطلال" في نحو ساعة ونصف. وبين الوصلتين، حاولت الصحافة المصرية مراقبة انطباعات البعثة الفرنسية، فشاهدوا جاكلين، إحدى عضوات البعثة وهي تقول: "إنها سيدة عظيمة.. تستحق أن تصبح إمبراطورة الغناء في العالم".


جانب من أطلال باريس
ما حدث في دمنهور والإسكندرية تكرر في المنصورة، التي أعدت مسرحاً في استاد المدينة، حضره 12 ألف مستمع، وذلك في 1 فبراير/ شباط 1968. وبلغت حصيلة الحفل من إيراد التذاكر والتبرعات 500 ألف جنيه مصري. وفي 8 مايو/ أيار 1969، أحيت السيدة حفلها في مدينة طنطا، وغنت في الوصلة الأولى "هذه ليلتي"، وفي الثانية "ألف ليلة وليلة".. ولحظة رفع الستار، صعد المحافظ إلى المسرح، ليعلن أن إيراد الحفل بلغ 274 ألف جنيه. منها شيك بمبلغ 124 ألف جنيه لتعمير مدن القناة وعودة المهجرين.

تكتسب زيارة أم كلثوم التاريخية إلى باريس مكانة خاصة، في المرة الأولى والأخيرة التي غنت فيها السيدة خارج العالم العربي.. وقد تتبع المؤلف بدايات الاتفاق بين أم كلثوم ومدير مسرح الأوليمبيا على إقامة حفلتين.. ورغم الظرف السياسي الصعب، وصعود النفوذ الصهيوني في فرنسا بعد هزيمة يونيو/ حزيران، وتحذير كثير من المحيطين بأم كلثوم من تلك المخاطرة التي قد تصل إلى تهديد حياتها، لا سيما بعد أن عرف الجميع غرضها من إقامة هذه المحافل.. إلا أن السيدة أصرت على إتمام الزيارة، وإقامة الحفلين.. وكعادتها، وضعت شروطاً معقدة وترتيبات دقيقة، ثم صدمت مدير المسرح بأجرها، إذ أصرت أن تتلقى عن كل محفل 7 آلاف جنيه إسترليني.

واجه مدير المسرح بطئاً شديداً في بيع التذاكر، لأن العرب كانوا غير مصدقين أن أم كلثوم ستغني في باريس، لكن بعد أن مرر التليفزيون الفرنسي خبر وصولها، انعكست الأزمة من "بطء البيع" إلى "صعوبة الحصول على تذكرة"، وسبل مواجهة هذا التنافس الناري على مقاعد الحفل.. غنت السيدة في ليلتها الأولى: "أنت عمري" و"الأطلال" و"فات المعاد".. و"في الثانية" "أمل حياتي" و"الأطلال مرة ثانية" و"فات المعاد".

نالت أم كلثوم أكبر أجر ناله فنان في العالم. وحققت لمسرح الأوليمبيا أكبر دخل في تاريخه. وكان ثمن التذاكر هو الأعلى منذ إنشاء هذا المسرح، واستقبلت بأحر وأطول استقبال في تاريخ الأوليمبيا. وجاءها المستمعون من العرب بالطائرات من مختلف العواصم الأوروبية والعربية. حضر الحفل 13 سفيراً عربياً، وممثل الجامعة العربية، ورصدت صحف فرنسية حضور الملك حسين عاهل الأردن متنكراً. وقدمت أم كلثوم أطول مدة غناء عرفها هذا المسرح. وتجاوب الجمهور معها تجاوباً صاخباً منفعلاً بلغ حد الصراخ. وظلت الصحف الفرنسية لنحو شهر تفرد مساحات واسعة تتناول فيها تفاصيل "الموقعة الكلثومية" في باريس.


وثائقي عن زيارة السودان
مع اختلاف في التفاصيل، وأشكال التكريم الرسمية والشعبية، أحيت أم كلثوم محافل مماثلة في عدة عواصم عربية. وما يجمع هذه المحافل، هو هذا التبجيل الذي تُعامل به أم كلثوم من الحكام والمسؤولين والشعوب العربية جميعاً. فدائماً ما تحظى السيدة استقبال رئاسي أو ملكي، وتخصص لها بعثة شرف تصحبها أثناء الزيارة، يزدحم برنامجها غير الغنائي بكثير من الأنشطة والفعاليات والزيارات وحفلات التكريم. وقد حشد هذا الكتاب قدراً هائلاً من هذه التفاصيل الاستثنائية التي لا يكاد يحظى بها الملوك والزعماء. وقد أطلقت أم كلثوم على حملتها اسم "رحلة المليون". لكن الجانب المرصود من هذه الحملة يؤكد أنها جمعت نحو مليوني ونصف المليون جنيه مصري.

لم يستطع كريم جمال أن ينحي عاطفته الجياشة المتدفقة تجاه كوكب الشرق، فالحرارة الأسلوبية تسير في الكتاب كله، وهو ما لاحظه المايسترو فيكتور سحاب، فقال في تقديمه للكتاب: "إن كثيراً من الصفحات تصل بالقارئ إلى حد إدماع عينيه تأثراً". لكن المؤلف لم يجعل من هذه المشاعر الشخصية سبباً لسوق المبالغات.

ولعل الدرس الأكبر الذي يقدمه هذا الكتاب، هو أن كثيراً من مراحل حياة أم كلثوم وفنها ما زالت بحاجة إلى جهد بحثي ضخم ومضن.. وأن صوتها بلغ من الخلود والتأثير أنه يجذب أجيالاً من الشباب والباحثين، الذين ولدوا بعد رحيلها بعشرين أو ثلاثين عاماً، ليبذلوا من وقتهم وجهدهم وحياتهم، للاقتراب من هذه الشخصية الكبرى. فهذا الكتاب، ليس إلا شاهداً جديداً على أن أم كلثوم لن تموت أبداً.

المساهمون