"أميركا"... بلاهات بيضاء على طريق الصواب السياسي

14 يوليو 2021
يحاول العمل أن يقول إنّ أميركا للجميع (نتفليكس)
+ الخط -

لا يتردد اسم مات ثومسون كثيراً في الثقافة الشعبيّة الأميركية. لكن، ما إن نعلم أنّه كاتب ومخرج ومُنتج مسلسل الكرتون الشهير "آرتشر" حتى يتخيل الواحد منا بدقة ما يمكن أن ننتظره منه، حين نقرأ اسمه مخرجاً لفيلم "أميركا: فيلم الكرتون" (America: The Motion Picture)، الذي بث أخيراً على شبكة "نتفليكس".

الفيلم الـ"ساتيري" (الهجائي) يوظف الـ"بارودي" (السخرية) والخيال العلمي، لإعادة إنتاج حكاية أميركا، ونقصد هنا الثورة من أجل الاستقلال والحرب ضد المحتل البريطاني، وتوحيد المستعمرات وتوقيع وثيقة الاستقلال. لكن، وكما هو مذكور في الفيلم، كلّ ما نراه يستند إلى الأحداث التاريخية بصورة تبتعد كلّ البعد عن التاريخ، إذ توظف السخرية والمبالغة حدّ السخف والإضحاك، من أجل سرد الحكاية الوطنيّة التأسيسية لأميركا بصورة تجمع كلّ من فيها من شعوب ومهاجرين وسكان أصليين. 

المميز في الفيلم، بالرغم من الانتقادات السلبيّة التي وجهت إليه، أنّه يعيد إنتاج كلّ الرموز الوطنية الأميركية، سواء كنا نتحدث عن النسر ذي الرأس الأبيض، أو ورقة المائة دولار التي تحمل صورة جورج واشنطن. فضمن بعض اللقطات السريعة، نشاهد كيف تكوّن كلّ رمز، فالنسر كان أبيض بأكمله، لكن نتيجة انفجار في مقهى "فيتنام" اسودّ جسده، ولم يبقَ سوى رأسه. كذلك نكتشف أنّ "أميركا" ليست إلّا وصية أبراهام لينكولن، لحظة اغتياله، وهي في ذات الوقت، حسب ما يشرح جورج واشنطن علامة سريّة تدلّ على عنوان، سيجتمع فيه عدو الجميع، المستذئب "بينديكت كوزبي أرنولد" الذي خذل الثورة وانضم إلى البريطانيين. 

مقهى "فيتنام" السابق، وخسارة "الأميركان" المعركة فيه، ليسا إلّا استعادة لتاريخ أميركا القريب، وهذا ما يميز الفيلم، هو دمجه لكلّ عناصر الثقافة الأميركية، بدءاً من الآباء المؤسسين، وانتهاءً بـ"روبو كوب" السايبورغ الذي ينضم لفريق الثورة من أجل طرد الإنكليز. لكنّ هذه العناصر قائمة بداية على توظيف الصورة النمطية، ودفعها لأقصى حدودها، كواشنطن ذي العضلات والبلاهة الذكورية، أو الأميركي الأصلي مهدور الحق دوماً، يترافق هذا التوظيف مع ترديد السخافات "البيضاء" ثم وضعها على طريق "الصواب السياسي". 

يحاول الفيلم أن يقول إنّ أميركا للجميع؛ الكلّ فيها مواطن وله ذات الحقوق، والثورة تنتهي بمجرد إعلان الاستقلال وتوحيد الصفوف، لكنّ الأمر أبعد من ذلك، إذ ما إن ينتهي الفيلم، حتى تنكشف العيوب في وثيقة الاستقلال، ويتردد السؤال الدائم: إن كان جميع الناس متساوين في الولايات المتحدة الأميركية، لمَ ما زال جورج واشنطن يمتلك عبيداً؟ هذا السؤال يشعل الخلافات في الدولة الجديدة، الخلافات التي ما زالت إلى الآن قائمة، كحقوق النساء وجدوى حمل السلاح الأوتوماتيكي من قبل المدنيين، والتمييز ضد الملونين. هذه الإشكاليات تبدو بلا حلّ، والأمل معلق على الجيل المقبل، بحسب كلمات شبح أبراهام لينكولن. 

يسخر الفيلم في كثير من الأحيان من نفسه، بوصفه "أبسط طريقة لنقل فكرة" كونه يتبنى شكل أفلام كرتون، الأسلوب الذي ربما "يفهمه كلّ الأميركيين". وهنا، يتضح لنا أنّ مقتل لينكولن، صاحب القدرة الخطابية، أفسح المجال أمام مكونات أخرى للثقافة الأميركيّة، إذ ضمّ واشنطن إلى فريقه "العِلم" متمثلا بتوماس أديسون، والأقليات العرقية المتمثلة بالسود والسكان الأصليين. والأهم، من يمكن أن نسميهم "الرياضيين" أولئك الذين يشربون الجعة طوال الوقت ويقضون وقتهم في التمرن على السلاح ولعب الـ"فوتبول" أو من يمكن أن نسميهم عصب أميركا، والذين يشبّههم الفيلم بـ"العم سام" ذاك العجوز الذي كان عنصرياً وأصبح الآن أشد وعياً، الأمر الذي لا يصدقه الفيلم نفسه. 

يمتعنا الفيلم في السخرية من الولايات المتحدة، خصوصاً أنّ الكم الهائل من الدماء والقتل الذي نشهده على الشاشة يحاكي تأسيس "ديمقراطيّة" الولايات المتحدة، القائمة على مجزرة، والمقصود قتل السكان الأصليين، بعكس الديمقراطية الأوروبيّة التي بدأت في اليونان على أساس وجود العبيد.

لكنّ الاختلاف، أنّ العنف التأسيسي الذي شهدته أميركا ما زال مستمراً، وفئات أخرى ما زالت تتعرض للقمع والعنف كونها، ببساطة، وكما نشاهد في الفيلم، لا تنتمي إلى الفئة ذات الامتيازات؛ "الرجل الأبيض الذي يحمل سلاحاً ويشرب جعة".

المساهمون