تذهلنا شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي كل فترة بمعضلة فكرية جديدة لا أهمية لإجابتها، لتكون هذه المعضلة واحدة من أعراض التهريج والسخافة التي يشارك بها الجميع على شبكة التواصل الاجتماعي كنوع من "التآخي" على أساس السخف، كمعضلة لون الفستان "أصفر أم كحليّ والتي شغلت "الناس" عام 2015 من دون أي نتيجة واضحة.
هذه التساؤلات وألعاب الدماغ تشبه المثال الذي ضربه الفيلسوف والألسني الشهير، لودفيغ فيتغنشتاين، حين وصف معضلة رأس الأرنب والبطة، لإيضاح طبيعة "الألعاب" و"القواعد" التي نتبناها من أجل تفسير الرموز من حولنا، شارحاً تقنيات "التشابه العائليّ" بين الرموز والعلامات التي قد تؤدي إما إلى لغط في المفاهيم أو سوء فهم أو اكتشاف لعلاقات جديدة بين الدوالّ ومعانيها. لكن الفرق يكمن في أن القراءات المتعددة للفستان ليست نتاج اختلاف أيديولوجي، بل هي نتاج خدعة بصريّة سببها تكوين الحواس البشريّة، أشبه بلعبة خفة لا بد أن تفقد قيمتها بعد اكتشاف سرّها.
مع ذلك، تبقى معضلة الفستان ثانويّة أمام المعضلة الأشهر وهي "ورق الحمام" والطريقة الأنسب لتعليقه، الورقة الأولى للخارج أم للداخل؟ هو السؤال الذي يطرحه في الجامعة عالم الاجتماع، إدغار ألن بيرنز، على طلابه في السنة الأولى، لتحليل أساليب التعلم الاجتماعي وطريقة ممارستنا لسلوكنا اليومي الذي يبدو عادياً ومبتذلاً، وحقيقة الجواب لا يهم، ولم يخطر حتى ببال سيث ويلر الذي اخترع ورق التواليت عام 1891، إذ قام ببساطة بجعل اتجاه الورق للخارج، ووضع الخطوط لقطع كل ورقة.
"المعضلة" بدأت عام 1997 على شبكة الإنترنت وظهور ما يعرف "بمناظرة ورق الحمام الكبرى" والتي بدأت كاستطلاع رأي أنشأه طالب في جامعة إنديانا، وتحوَّلت إلى نقاش اجتاح نشرات الأخبار، واختلفت الآراء حوله، وأصبح جزءاً من الثقافة الشعبيّة، بل إن صفحة وكيبيديا باسم "توجيهات لاستخدام ورق التواليت" تأسست عام 2010، لتشرح للناس أسلوب استخدام ورق الحمام.
لكن ماذا بعد ذلك؟ لم كل هذه التساؤلات والأبحاث الاجتماعيّة والمقالات والآراء؟ وكيف تختلف هذه المعضلة عن لوحة الفنان الألماني جيرارد ريشتر التي تحوي ورق تواليت معلقاً بصورة معكوسة؟ الإجابة ترتبط بالقيمة النقدية التي يحويها العمل الفنيّ حتى لو كان "مبتذلاً"، والاختلاف بينه وبين صيحات الإنترنت التي تكمن، نظرياً، فيما يحمله العمل الفنيّ من تاريخ وعلاقات سياسيّة تحيط به، والتي تحول المبتذل إلى وسيلة لقراءة العالم، كحالة لوحة ريشتر التي عرضت لأول مرة عام 1965.
يحمل ورق الحمام في لوحة ريشتر حكاية تعكس شروطاً سياسية واقتصادية ترتبط بعصره، إذ هاجر من ألمانيا الشرقيّة إلى الغربيّة، تاركاً وراءه كل شيء، واختار ورق الحمام كموضوعة، بوصفه يمثل الرخاء الذي كانت تشهده ألمانيا الغربية في الستينيات، في حين أن هذا الورق كان نادراً في ألمانيا الشرقيّة، لتبدو اللوحة أشبه بتعليق على الحالة الاقتصاديّة المترديّة لألمانيا الشرقيّة. أما سبب وضعها بالعكس، فببساطة لأنه كان يستخدمها هكذا في منزله، فالحكاية والقيمة النقديّة ليست فقط في أسلوب العرض ضمن اللوحة، بل في الشرط الذي دفع الفنان لاستخدام هذا الغرض، وتحويله إلى جزء من عمل فنيّ.
التساؤل الذي نحاول إثارته في هذه المعضلة والعلاقة بين الفني و"السخيف"، هو الغياب الكليّ للحدود الواضحة بين الاثنين، ولا ندافع عن شكل فني على حساب آخر، لكن نسائل الذائقة الفنيّة، ونبحث عن الحكاية الشعرية التي تختفي وراء الأغراض الفنيّة المبتذلة، والتي أصبحت الآن مهددة بالتلاشي، بل إن سوق الفن نفسه أًصبح بتحد مع رأس المال، كحالة أعمال جيف كونز وكلابه المصقولة. فالجدل الذي يثيره الفنيّ الآن، مشابه لجدل ورق التواليت والثوب الأصفر، هو تعليق على وضعية السوق أكثر منه على التجربة الإنسانيّة، وكأن الفنّ يقف أمام تحد جماهيري يرتبط بالفن الحديث عموماً، وهو كيف نصل إلى أكبر عدد من الناس، ونثير أكبر قدر من الجدل. وهو التحدي الذي فرض على الفنّ من قبل الإعلان و"البوب آرت" والـ "ميمز" memes.