أسئلة الإنتاج المغربي: ثورة في قوانين الدعم وفلسفته

25 مارس 2020
"آدم" لمريم توزاني: نجاحات دولية (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
ترتبط السينما المغربية بسياسة دعم الإنتاج بشكل وطيد، حتى يكاد المهنيّون والمهتمّون بشتى انتماءاتهم لا يتخيّلون نشاطاً سينمائياً في المغرب في غياب نظام الدعم، لاعتبارات تاريخية، وأخرى متعلّقة بهيكلية مرتبطة باختلال دورة الصناعة السينمائية. وضعية تُذكّر ازدواجيتها بدور هذا النظام المهمّ في استمرار حركة السينما المغربية النسبية، وحالة عدم الفاعلية الناجمة عن عدم مواكبته تطوّر سمات الممارسة، وبأسطورة سيف ديموقليس، الذي يرمز في آن واحد إلى قوّة الحاكم وخطر الانهيار الذي يتهدّده في أيّ وقت.

هذا التحقيق يُقدِّمُ لمحة تاريخية عن تطوّر صيغة نظام الدعم، وتسليط للضوء على أهم ملامحه، ومحاولة تلمّس بعض سبل تطوير أدائه نحو الأفضل، وذلك مع الناقد والكاتب محمد العروصي والناقد السينمائي محمد بكريم، اللذين اختبرا جيداً سياسة الدعم، لكونهما عضوين في لجنتي دعم سابقتين (2015 و2017).

سيرة وتحوّلات
أُنشئ صندوق الدعم، في شكله الأول، بداية ثمانينيات القرن الـ20، فأعطى دفعة مهمّة للإنتاج السينمائي، أفضت إلى تحقيق 38 فيلماً بين 1980 و1989، بعد أن كان متوسط إنجاز الأفلام لا يتجاوز "فيلماً ونصف الفيلم" سنوياً في السبعينيات الفائتة: "آنذاك، كان منح الدعم يتمّ أوتوماتيكياً فور تقديم الملف إلى مدير "المركز السينمائي المغربي"، فأطلقت هذه الصيغة ديناميكية إنتاج أدّت بدورها إلى انعقاد "المهرجان الوطني للفيلم"، وانتُقِد هذا الإنتاج بشدّة، إلى درجة أن الراحل مصطفى المسناوي استخدم تعبير "صيّادو المكافآت" لتلخيص مزاج الرأي العام السائد إزاء هذه الصيغة"، كما يتذكّر محمد بكريم، الذي أضاف أنّه "تمّ التخلي عن هذه الصيغة، فسادت فترة فراغ بعدها".

بدءاً من عام 1987، اعتُمدت صيغة جديدة، ترتكز على انتقاء الأعمال من لجنة ونظام يريدان تحسين موارد الصندوق، بفرض رسوم على تذاكر السينما. منذ عام 2004، اعتُمدت الصيغة الحالية، أي "التّسبيق على المداخيل"، فصار انتقال من "نظام الأموال المفقودة" إلى "نظام التّسبيق على المداخيل"، بموجب عقد موقّع بين شركة الإنتاج و"المركز السينمائي المغربي"، يسمح لهذا الأخير، وفقاً لشروط مُعيّنة، باسترجاع جزء من التّسبيق الممنوح على شكل دعم من مداخيل تسويق الفيلم بناء على جدولة مسبقة ومضبوطة.

يوضح محمد العروصي أنّه "يجب أنْ تُسدّد الأفلام "المدعومة" التّسبيق منذ الدرهم الأول المحصّل عليه"، لكن، "نظراً إلى الصعوبات الهيكلية لتسويق الفيلم المغربي، لا يتمّ سداد هذا التسّليف غالباً. وحتّى عندما يتسنّى ذلك أحياناً، فإن الأموال المسترجعة قليلة جداً". بالنسبة إلى بكريم، فإنّ هدف هذه الصيغة "ليس استرجاع الأموال المقدّمة، فهذا ليس مصرفاً، بل أولاً تنقية الحسابات والحرص على الشفافية في صرف التمويل، فتُخاض مثلاً معركة حامية لدفع المنتجين إلى فتح حساب مصرفي خاص بالفيلم الذي تلقّى تسبيقاً على المداخيل".



لا تفتقر الصيغة إلى الأصالة، خاصة في ما يتعلق بتمويل الدعم، المستمدّة ميزانيته من "صندوق دعم الإنتاج السمعي البصري"، الذي تتمّ تغذيته من 3 أنواع من الضرائب: تذاكر السينما، واستهلاك الكهرباء، والإعلانات التلفزيونية: "المصدر الأخير نال إعجاب أصدقائنا التونسيين، في إطار اهتمام من تونس والسينغال بنقل التجربة المغربية"، يقول بكريم، مضيفاً أنّه اشتغل بنفسه مع سينمائيين تونسيين غداة ثورة 2011 ، "لتقديم النموذج المغربي في هذا الشأن".

بعد القفزة التي سجلتها السينما المغربية في عقد التسعينيات الفائتة، مع إقبال الجمهور على الفيلم المغربي للمرّة الأولى بعد عقود من سيطرة أفلام المثلّث الأميركي الهندي المصري على شبّاك التذاكر، بدأت تظهر بوادر المفارقة العويصة مع مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة، وهي لا تزال تخيّم بثقلها على السينما المغربية إلى اليوم: من جهة أولى، انتعاش إنتاج الأفلام المدعومة، فتجاوز العدد 20 فيلماً سنوياً؛ ومن جهة ثانية، نزيف إغلاق صالات السينما، الذي عطّل عجلة الاستغلال، مُشكّلاً حاجزاً بين الأفلام المغربية وجمهورها، وضارباً بعرض الحائط جهود النموذج الإنتاجي. فأيّ جدوى من إنتاج أفلام لا تعرض غالبيتها في الصالات السينمائية، ولا يُخلّف جلّها أيّ أثر أو نقاش يُذكر في المجتمع؟

أدّت هذه المفارقة ـ بالإضافة إلى غياب معايير تقييم السياسة الإنتاجية وتكييفها وفق المعطيات والتطوّرات المستجدّة في الممارسة السينمائية المغربية ـ إلى وضعية غير مرضية بتاتاً، يُشير إليها مدير "المركز السينمائي المغربي" صارم الفاسي الفهري، أثناء تقديمه حصيلة قطاع السينما، على هامش "المهرجان الوطني للفيلم بطنجة" قبل عامين: "هناك أفلام نادرة تحقّق نجاحاً نقدياً وإشعاعياً، وتجلب جوائز من مهرجانات دولية مرموقة، وأفلام قليلة أخرى تحقّق نجاحاً جماهيرياً نسبياً في شبّاك التذاكر. وفي الوسط، هناك أفلامٌ، تشكّل الأغلبية، لا تحقّق لا هذا ولا ذاك، وينبغي أن نسعى جميعاً إلى تقليص نسبتها".

الغاية والوسيلة
تشخيصٌ صائب، لن يختلف عليه عارفان بأوضاع السينما المغربية. لكنْ، ما السبيل إلى الخروج منه؟ لا حلّ لا يمرّ عبر إعادة النظر في منظومة الدعم، وثورة تمسّ قوانينها وفلسفتها، لأنّها بكل بساطة أهمّ رافعة تتحكّم في ممارسة السينما في المغرب، وتُرهن بنتائجها ومدى فاعليتها الرافعات الأخرى.

بالنسبة إلى محمد العروصي، فإنّ "نظام الدعم مكسبٌ مهمّ وثمين، ينبغي الحفاظ عليه بأيّ ثمن، والعضّ عليه بالنّواجذ"، نظراً إلى دوره المهم في "تمكين المنتجين من خلق أعمال وطنية تخاطب الجمهور المغربي، والعالميّ أحياناً، وبالتالي بناء تراث سينمائي وطني، يضعونه بين أيدي الأجيال المقبلة". لكنّ هذا النظام "بدأ يُفصح، بشكل واضح وصارخ، عن نواقص هيكلية". أما بكريم، فيقول إنّ السؤال اليوم ذو شقّين: سؤال الغاية وسؤال الوسيلة، مضيفاً أنّه "إذا كان المبدأ صحيحاً، ينبغي إعادة تعديله على مستوى الغاية. فدعم السينما يُعدّ اليوم مسألة استراتيجية في ظلّ العولمة، حيث تحشُدُ المعركةُ ـ للسيطرة على المنتجات التخييلية ـ رأسَ مالٍ هائل، مع وصول أشكال جديدة من البثّ والإنتاج. يتعلّق الأمر بإعادة ضبط الدعم، عبر التساؤل عن أيّ سينما نريد، وبأيّ كلفة". ويُشير بكريم إلى أنّ الوضع الحالي للإنتاج "يبدو غير متناسب مع إمكانيات بلدنا، ومستوى النتائج المحقّقة، خصوصاً أنّ معدّل اختراق الأفلام المغربية للسوق منخفض للغاية".

ويتساءل: "ألم يحن الوقت للنظر إلى "نظام نوليوود"؟ (نظام إنتاج الأفلام في نيجيريا بميزانية محدودة، في إطار خروج أغلب الإنتاجات مباشرة إلى سوق أقراص الفيديو، وتحقيق أخرى تُشكلّ الأقلية منها جودة مرضية، فُتحت أمامها أبواب المهرجانات الدولية ـ المحرّر). الميزانية الحالية للدعم، تبلغ 60 مليون درهم سنوياً. يمكننا أن نتخيّل أنّها تُنتج 200 فيلم سنوياً، ما من شأنه تغيير المعطيات جذرياً".

من جهته، يتوقّف محمد العروصي طويلاً عند إشكالية عدم توفير المنتجين لمصادر إنتاج أخرى، تُكمِّل معادلة إنتاج الفيلم، حدّدها القانون في ثلث ميزانية الفيلم على الأقلّ، على شكل مساهمة أطراف أخرى في الإنتاج، أو مساهمة بمكافأة المنتج أو المخرج أو السيناريست (يكونون غالباً شخصاً واحداً)، أو على شكل قروض يحصل عليها المنتج: "للأسف، نسبة قليلة جداً من منتجي المشاريع، الحاصلة على الدعم، يتمكّنون من تأمين هذا الثلث الضروري لإنتاج الفيلم في ظروف مناسبة، وفق تقييم دقيق من "الخبراء الماليين" للّجنة. نتيجة لذلك، فإنّ المشروع المعني لا يتمّ إنتاجه في نهاية المطاف إلا بثلثي التقييم المالي، وفي أحيانٍ كثيرة، بأقلّ من ذلك بكثير. والنتيجة النهائية لا تكون مرضية أبداً غالباً"، قبل أن يردف قائلاً إنّ المنتج المغربي "لا يتوفّر على العموم على رأس مال خاص، ويتعذّر عليه البحث عن مصادر تمويل تكميلية، وبالتالي يكون "منتجاً مفوّضاً"، يقتصر على دعم الدولة. ونظراً إلى عدم توفّر مصدر دخل آخر لدى هذا المنتج ـ المخرج ـ كاتب السيناريو، وبما أنّه يتوقف عن الاشتغال أعواماً عدّة، فإنّه يجد نفسه مُجبراً على استخدام جزء من مبلغ الدعم لسداد ديونه الشخصية أو المهنية المتراكمة، أو بكل بساطة لتسوية نفقات عيشه".

تتكوّن لجنة دعم الأعمال السينمائية من 9 أعضاء، بالإضافة إلى الرئيس (العدد 10 قبل المصادقة على تعديل ينصّ على حذف ممثّل وزارة المالية مؤخّراً): 4 ينتمون إلى الثقافة والفن والتربية والسينما/ القطاع السمعي ـ البصري، و3 من ذوي الكفاءة الضرورية لتقييم ميزانية الفيلم، و3 آخرين يمثلون وزارتي الاتصال والثقافة و"المركز السينمائي المغربي". تعقد اللجنة 3 دورات في العام، تعلن بعدها المشاريع الحاصلة على الدعم "ما قبل الإنتاج" و"ما بعده"، ودعم كتابة أو إعادة كتابة السيناريو. يوصي القانون صراحة بإيلاء أهمية خاصة للأعمال الأولى والثانية لمخرجيها، "تشجيعاً للتنوّع، وتجديداً للطاقات الإبداعية". ويُصرف الدّعم على 4 دفعات: الأولى قبل أسابيع قليلة على بدء التصوير، والثانية والثالثة أثناء التصوير، والرابعة عند تقديم نسخة عمل إلى اللجنة. هذه الأخيرة تحتفظ بحقّ حجب الدفعة الرابعة، في حال تبيّن لها بعد المُشاهدة أنّه لم يكن بمستوى المشروع المقدَّم.

أصوات عاقلة
انتقادات كثيرة تطال نظام تكوين اللجان واشتغالها، بعد إعلان نتائج كلّ دورة تقريباً، حتى أصبحت أصوات المنتقدين جزءاً من روتين العملية. انتقادات كثيرة تأتي بدافع المصلحة الخاصة، ومن ضغينة عدم الحصول على الدعم. لكنّ هذا لا يمنع من وجود أصوات عاقلة، تطرح أفكاراً ذات مصداقية وبدائل تستحق، إنْ لم تُتبَنّ، أنْ تُناقش على الأقلّ. "إذا كان النقاش حول هذه الصعوبات مُتشنّجاً غالباً، أو مندرجاً في خانة التابوهات، فإنّ جدلاً لا ينفكّ يتكرّر كل مرّة حول عدد المشاريع المدعومة"، يقول العروصي، مُشيراً إلى "أنّ عدد المشاريع المُقدّمة في كلّ دورة، في الأعوام الأخيرة، يتراوح بين 20 و25 مشروعاً. لكنْ، بما أنّ كلّ دورة لا تتوفّر سوى على مليوني درهم في المجموع (بما في ذلك دعم ما بعد الإنتاج)، فإنّ عدد الأعمال التي تدعمها اللجنة في كلّ دورة لن يتجاوز 5 أو 6". ونظراً إلى أنّ عدد الوافدين الجدد لا يتوقّف عن الارتفاع، عاماً تلو آخر، "فإنّ منسوب الأشخاص غير الراضين سيرتفع بدوره".

أما بخصوص "نظام اشتغال لجنة الدعم"، فيرى محمد بكريم أنّه "ضروريّ الانتقال من 3 إلى 4 دورات، منها واحدة مخصّصة لمشاريع الأفلام الأولى". يُضيف: "أمّا من حيث نظام تكوين اللجنة، فعدد الأعضاء (المتّفق عليه) مُبالغ به. سمعتُ أنّ وزارة المالية تخلّت عن مقعدها في اللجنة، وآمل أن تقتفي خطاها وزارتا الثقافة والاتصال".

بينما يُبدي محمد العروصي عدم اقتناعه بجدوى حلّ دورة مخصّصة للأفلام الأولى، لأن تجربته في لجان عدّة تُثبت أنّ "معيار الأقدمية، أقلّه في السينما، وخصوصاً في المغرب، ليس ناجعاً"، مضيفاً أنّه لنْ يذكر أسماء، "لكنّ صنّاع أفلامٍ عديدين لدينا، رغم "تجربتهم الطويلة"، لا يتحسّنون مع مرور الوقت، بل على العكس تماماً". يقول: "من جهة أخرى، أثبت بعض الشباب، وهنا أيضاً لن أذكر أسماء، خاصة في الأعوام الأخيرة، أنْ لا عقدة نقص لديهم تجاه من سبقهم، وتمكّنوا من المنافسة، بل من التفوّق عليهم أحياناً كثيرة"، منتهياً إلى القول: "لا شكّ في أنّ كلامي هذا لن يرضي البعض، لكنّي أتحمّل مسؤوليته، خصوصاً أنّي لم أخفِ يوماً رأيي هذا".

من جهته، يؤكّد محمّد بكريم على حلّ تخفيض عدد أعضاء اللجنة، وتقسيم مهامها إلى إدارية وتقنية من جهة، وفنّية من جهة أخرى: "يمكن تخيّل الحل في لجنة قراءة مكوّنة من 7 أعضاء، بتوجّه يغلب عليه الطابع الفني والأكاديمي، فيركّزون بشكل أفضل على الجانبين الدرامي والفني، بينما تمهِّد لهم لجنة إدارية منفصلة لعملهم، بإجرائها فرزاً مبدئياً بناءً على معايير إدارية صرفة".

الحصّة الهزيلة والمهينة مخصّصة للفيلم الوثائقي، عبر مادة تنصّ على أنّ عدد أفلام هذا الصنف لا يُمكن أنْ يتجاوز الاثنين سنوياً. هذا أكثر جوانب قانون الدعم غرابة واستعصاءً على الفهم، خصوصاً في ظلّ المكانة المتنامية التي يحظى بها الفيلم الوثائقي في المهرجانات الكبرى، والدينامية التي يبثّها في منظومات السينمات الصاعدة: "يجب إعادة الاعتبار إلى الفيلم الوثائقي كعملٍ سينمائي قائم بحدّ ذاته، من حيث التمويل، وبالتالي إلغاء الاقتصار على فيلمين وثائقيين مدعومين سنويا"، كما يقول محمد بكريم.

هناك أيضاً معضلة الضغط، الذي يشكّله العدد المرتفع للمشاريع المُقدّمة إلى اللجنة في كلّ دورة، خصوصاً أنّ أعضاء كثيرين فيها موظفون غير ملزمين بالتفرّغ لدراسة المشاريع، نظراً إلى انشغالاتهم الأساسية. هذا يصبّ مجدّداً في ضرورة إلغاء مقاعد ممثلي الوزارات من اللجنة، وإيجاد صيغة لفرض التفرّغ على أعضائها لدراسة المشاريع، مع رصد مكافأة مالية مناسبة لتعويضهم عن ذلك: "سيكون من السذاجة الاعتقاد بأنّ أعضاء اللجنة جميعهم قادرين على قراءة المشاريع كلّها، باهتمامٍ وصرامة مطلوبين"، كما يقول العروصي، مُشيراً إلى أنّ "ذلك غير عائدٌ بالضرورة إلى الكسل أو انعدام الأمانة، بل لأنّ الأمر يتعذّر القيام به في حيّز قصير نسبياً، متاحٌ لهم". ويختم قائلاً: "ينبغي دراسة حلّ لهذه الإشكالية، واقتراحه في أقرب وقت ممكن، لما فيه مصلحة الأطراف جميعهم، وقبل كلّ شيء، لصالح السينما المغربية".
المساهمون