عندما نتفحصّ الأعمال الفنية التي أنتجها فنانو المعارضة السورية بعد تسعة أعوام من الثورة، سنلاحظ أن السمة الرئيسية لهذه الأعمال الفنية هي "نخبويتها" وتعاليها على الفن الشعبي الذي يبدو أن الشارع السوري بحاجة ماسة له اليوم. فعلى الرغم من اقتران الثورة السورية بمصطلح "الشعبية" عند معظم المؤسسات الثقافية التي دعمت الفن السوري الثوري، وأن غالبية الأعمال الفنية الثورية ذات الطابع النخبوي تغنت بشعبية الثورة؛ لكن المفارقة تكمن بأن الثورة السورية الشعبية عجزت عن إنتاج فن شعبي!
قد يجد بعضهم في هذه العبارات إجحافاً للفنون التي ولدت من رحم الثورة السورية، وخصوصاً أن الحراك الشعبي أتاح للمهمشين الفرصة للتعبير عن ذواتهم بأساليبهم الفنية الخاصة والمبتكرة التي كسروا بها القوالب الجامدة للتعبير الثقافي المركزي السائد، ونجمت عن ذلك أعمال فنية تتمتع بمكانة ثقافية وسياسية، أبرزها لافتات كفرنبل وجداريات سراقب والأغاني والشعارات التي رددها المتظاهرون في الشارع بمختلف المحافظات السورية. ولكن هذه الحركات الفنية لم تتحرر من طبيعتها الهامشية، ولم تتمكن من تكريس مركزية فنية مضادة، تجابه الفن السوري الذي ينتجه النظام على المدى البعيد؛ ربما توجد بعض الاستثناءات لفنانين تحولوا رموزاً للفن السوري الشعبي من خلال مشاركتهم بالغناء في المظاهرات، أبرزهم: القاشوش والساروت، ولكن النظام السوري قتل الأول واقتلع حنجرته بوحشية في العام الأول من الثورة، وتسبب بقتل الساروت منتصف العام الماضي. ومع رحيل الساروت فإن الثورة السورية اليوم تفتقد لوجود فنان شعبي يمثلها.
فالمشكلة لا تتمثل بعجز الشارع السوري عن ابتكار أساليب تعبير فنية في حراكه، بل إن ظهور العديد من الحركات والمؤسسات الثقافية، والاهتمام العالمي بالشأن السوري في الأعوام الماضية، ساهما بترسيخ مفهوم "المواطن الفنان"، وفتح ذلك الأفق أمام آلاف الهواة لخوض تجاربهم الفنية الأولى. وأما المشكلة الحقيقية، فهي تكمن بندرة الأعمال الفنية الشعبية التي قدمها فنانو المعارضة المحترفون، وعدم اهتمامهم بتشكيل مركزية فنية شعبية مضادة للمركزية الفنية التي يدعمها النظام السوري.
ما هي الفنون الشعبية في سورية؟
تعتبر الدراما التلفزيونية النمط الفني الأكثر شعبية في الشارع السوري، كما أنها تتمتع بنسبة عالية من المتابعة محلياً وعربياً؛ ومع ذلك لم ينتج فنانو المعارضة سوى مسلسلات تلفزيونية قليلة، تُعد على أصابع اليد الواحدة، ليتيحوا بذلك الفرصة أمام النظام السوري لسرد روايته الخاصة عن الأحداث السورية من خلال الفن الأكثر شعبية؛ وهو أمر ذو تأثير سلبي للغاية، إذ إن الجمهور السوري مرغم على متابعة مسلسلات تميل لكفة النظام، واجترار رواية النظام بالفن الأكثر شعبية، والذي سيكون له تأثير على تلقي الأجيال السورية التي نشأت بعد 2011 بكل تأكيد. في المقابل، فإن الفنانين المعارضين أنتجوا خلال الأعوام التسعة الماضية مئات الأفلام الوثائقية والقصيرة، التي لم تتوجه بالأصل إلى الجمهور السوري، بل تم إنتاجها للمشاركة في المهرجانات العالمية؛ وقد حقق بعض المخرجين السوريين من خلالها النجاح، فحصدوا عشرات الجوائز وتمكنوا من الدخول إلى سباق الأوسكار، كما حدث مع وعد الخطيب وفراس فياض هذه السنة، وآخرين في الأعوام الماضية. لكن هذه الأفلام، مهما علا شأنها، لن تنجح في سد الفراغ ولن تحل محل الفن الشعبي، وستبقى حالة الاغتراب قائمة بينها وبين الجمهور المحلي؛ فهي أعمال فنية نخبوية تتعاطى مع الشارع السوري كبيئة تستقي منها موادها، من دون أن تهتم باحتياجات الجمهور في الشارع السوري. وعلاوةً على ذلك، فإنه من الغريب حقاً أن مخرجي الأفلام الوثائقية والقصيرة، لديهم إيمان غير مفهوم بأن هذا الأعمال الفنية النخبوية التي يقومون بإنتاجها لتعرض في المهرجانات العالمية سيكون لها دور في تغيير مسار القضية السورية؛ وكأن المجتمع الدولي غافل عن جرائم نظام الأسد ويحتاج لوثيقة فنية لتحركه.
وأما في ما يتعلق بالكوميديا، والتي يفضلها الشارع السوري على غيرها من الأنواع الفنية، فإن حضورها اقتصر عند فناني المعارضة السورية على بعض البرامج البسيطة التي تستمد موادها من المحتوى التلفزيوني لإعلام النظام السوري؛ ومن أبرز هذه البرامج: برنامج "نور خانم" (على شاشتي قناة سورية والتلفزيون العربي) الذي يعيد تدوير مواد الإعلام السوري الرسمي ضمن سياق ساخر، وبرنامج "حمصوود" (على يوتيوب) الذي ينتقد المسلسلات التي أنتجتها الشركات التابعة للنظام السوري. ورغم أن هذه البرامج قد نجحت في الوصول إلى مكانة شعبية مقبولة في الشارع السوري، إلا أن مشكلتها تكمن في أنها لا تزال تكرس ما يقدمه النظام على شاشاته كمركزية لا غنى عنها للجمهور السوري، وأنها لم تنجح في خلق مركزية فنية مضادة يمكن الاستناد إليها لتأسيس مركزية جديدة للفن السوري.
وبعيداً عن الشاشات، فإن السوريين أنتجوا خلال الأعوام التسعة الماضية مئات المسرحيات في دول الجوار وأوروبا. وفي سورية لطالما كان المسرح فناً نخبوياً، إذا ما استثنينا تجربتي مسرح "دف الشوك" ومسرح همام حوت. لذلك كان من غير المنطقي التأمل من العروض المسرحية التي لا تصل سوى إلى عدد محدود من الناس أن تصبح فناً شعبياً؛ ناهيك عن كون معظم العروض السورية في الخارج بدت غير موجهة للجمهور السوري بسبب الشرط المكاني والعامل الجغرافي الذي يحدد جمهور المسرح.
جمهور الثورة السورية والفنان الشعبي
عندما بدأت الثورة السورية، اصطف العديد من الفنانين السوريين الذين يتمتعون بمكانة شعبية عالية في صف الثورة؛ منهم: فارس الحلو، جمال سليمان، يارا صبري، مكسيم خليل، أصالة وغيرهم. ولكن مواقفهم العلنية من الحراك الشعبي في بداية الثورة، وانحسار نشاطهم الفني على حساب النشاط السياسي والإنساني، رفعتهم إلى مكانة الفنان الملتزم بالقضية. وهذا التحول في العلاقة مع هؤلاء النجوم، وعدم تقبل بعض الجمهور المعارض الفنانين الشعبيين الموالين، جعل الجمهور يبحث عن فنان شعبي جديد، ووجد ضالته بالفنان السوري عمر سليمان، بعد أن انتشر فيديو "البسطار" الذي يستخدم تقنيات المونتاج لعرض الواقع السوري الكارثي بشكل كوميدي على أنغام أغنية "Crystalline" التي تجمع عمر سليمان وبيورك؛ وبعد أن أنشئت صفحة "ولدي ماهر" على "فيسبوك" التي استثمرت صور عمر سليمان للسخرية من الأحداث السورية والعالمية. عندها أعاد جمهور المعارضة السورية خلق عمر سليمان، ليحوله إلى فنان شعبي لجمهور المعارضة السورية، ولم يتوقف عن حضور حفلاته والاستمتاع بالرقص على أغانيه، حتى بعدما اكتشف أنه موالٍ للأسد، لتوضح هذه الحادثة أن الشارع السوري كان ولا يزال بحاجة لفنان شعبي.