حكايات الأسد: إنتاجات لتفكيك رواية "الانتصار"

20 يونيو 2019
"انتصارات" على الركام والجثث (لؤي بشارة/فرانس برس)
+ الخط -
تحوّل بشار الأسد بعد أكثر من 8 سنوات من الثورة في سورية إلى أيقونة للخراب، ورمز حيّ لقوى ومؤسسات قمعيّة فاعلة، تختزن وراءها موتاً وتشريداً للملايين. كما أنه بات ثيمة ثقافيّة تتحرك حولها الحكايات، سواء تلك التي ينتجها هو وماكينة الدعاية التي يمتلكها مع مؤيديه، أو تلك المواجهة لها، والتي تسعى لكشف خفايا سلوكه وتكوينه النفسيّ، وفهم آلية عمل نظامه ومحيطه. هكذا نرى أنفسنا أمام "حقائق" متعددة، كل جهة تسعى لإعادة رسم صورة الأسد والشروط التي جعلته على ما هو عليه: مُخلّصاً للبعض، وطاغية قاتلاً بالنسبة للبعض الآخر. فلكل طرف "حقائقه" وحكايته، التي يتداخل إثرها الوهم مع الحقيقة حد العجز عن التفريق بينهما.

لكن بعض الإنتاجات التوثيقية برزت في السنوات الأخيرة، ويبدو الحديث عنها اليوم أساسياً، لأنها تتيح للعالم تفكيك وانتقاد حكايات "ما بعد الانتصار" التي يروج لها النظام السوريّ، والتي تجعل من بشار الأسد منتصراً ومخلصاً أعاد الأمن والاستقرار للبلاد.

هذه الإنتاجات التي تحيط بالأسد، سواء كانت واقعية أو متخيّلة، تحاول الكشف عن الرجل خلف الصور المنتشرة في أنحاء سورية، وفهم التقنيات التي تشكّل هذه الصورة، ومعانيها التي لا تصرح بها الحكايات الرسميّة. وذلك لخلق وثائق وحكايات للتاريخ، ودلائل لمساءلة أكاذيب البروباغاندا التي ينتجها النظام السوريّ، خصوصاً أن حكاياته تنال أحياناً شرعيّة سياسية وتاريخيّة أكثر من الحقيقة الواقعيّة.


سلالة خطرة
بثت العام الماضي قناة BBC 2 البريطانيّة وثائقياً من ثلاثة أجزاء بعنوان "سلالة خطرة ــ منزل الأسد"، يحكي عن التاريخ الشخصيّ لأسرة الأسد والعلاقات الداخلية بين أفرادها، وتأثير الشخصيّ على السياسي ضمن "المافيا" الحاكمة. والمثير للاهتمام فيه، أن البعض فوجئ بصور وتسجيلات للأسد وأسرته لم تكن علنيّة من قبل، سواء كانت لحافظ الأسد أو ابنه. والأهم أننا نشاهد كواليس حملات الدعاية والبروباغاندا التي يقوم بها بشار الأسد، وشركات العلاقات العامة التي وظّفها لتلميع صورته وزوجته بوصفهما "معاصرين". وهنا نفهم أن بشار الأسد في الغرب مختلف كلياً عما نعرفه نحن، فما نراه في الوثائقيّ من مواد مصّورة وحكايات لم تُصنعْ للسوريين، بل للآخرين. فمن هم داخل سورية، محكومون بصورة واحدة للأسد الأب أو الابن، وحكاية واحدة رسميّة لا يجوز انتقادها.

تكمن أهمية الوثائقي في أنه يؤكد حقيقة الحكايات الشعبية والسريّة التي ترتبط بالأسد الابن، عبر لقاءات مع مقربين منه، سواء في بريطانيا حيث درس أو سورية حيث أصبح رئيساً، إذ يكشف لنا عن سعيه لخلق الاختلاف بين صورته وصورة والده، ومطاردة شبح الأخير له دوماً، سواء عبر ضغوط الأسرة أو سطوة "الحرس القديم".

يُلاحظ أيضاً أن الوثائقيّ يوظف "الدراما" والجماليات السينمائيّة للكشف عن اصطناعيّة صورة الطاغيّة، وكيف تحول فرد إلى "سيد" يعلو على القانون والنظام، ويتصرف خارجهما؛ إذ نتلمس حسب ما يقال في الوثائقيّ، كيف خضع بشار الأسد إلى دورة مكثفة من قبل أبيه كي يتحول إلى دكتاتور معاصر.

حقائق للآخرين
التلاعب السابق بالحكايات وخلق نسخ متعددة منها، يشار إليهما في مقدمة الكتاب الصادر العام الماضي عن "دار سولين/ أكت سود" الفرنسيّة بعنوان "داخل رأس بشار الأسد"، وهو من تأليف كل من صبحي حديدي وزياد ماجد وفاروق مردم بك. هنا نقرأ كيف قامت وسائل الإعلام الرسميّة السورية أثناء ترجمتها للقاء مع بشار الأسد أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" عام 2003، بحذف سؤال عن توريث السلطة في سورية، ومقارنته لما قد يحصل في مصر، لتصبح النسخة العربية خالية من السؤال وجواب الأسد عليه.

الكتاب الذي يُعدّ جزءاً من سلسلة تتناول قادة مثيرين للجدل كالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والروسي فلاديمير بوتين وغيرهما، يحدثنا عن سيرة آل الأسد، وبداية تكون الأسرة وهيكلة النظام السوري على يد حافظ الأسد، وتلاعبه بالمكونات الطائفية والعرقية في البلاد، كي يؤسس لسلطته، سواء الرسمية أو تلك اللارسمية عبر تصميم أجهزة الأمن والمخابرات التي تنشط بأوامر مباشرة منه.

ما نقرأه في الكتاب موجّه للفرنسيين، وللكثيرين ممن يرون في بشار الأسد مُخلصاً، وخصوصاً في ظل غياب المراجع عن طبيعة النظام في سورية، وندرة الحكايات وراء تشكيله وآلية عمله حتى الآن، إذا يشرح لنا عن دور الأسد في دمشق والتحالفات التي يمتلكها، وكيفية عمل ماكينة القتل التي يقودها والتي ورثها عن والده، لنرى أنفسنا أمام التكوينات الدقيقة للنظام السوريّ ودور الرئيس فيها.
تكمن أهميّة الحكايات السابقة في أنها تُحاكم الأشكال التي يظهر بها الطاغية، وفقاً للرواية الرسمية. حيث تتراوح صورته بين التمثال، ورب الأسرة، والقائد العسكري، خصوصاً أن سورية عرفت منعاً ــ ما زال قائماً ــ لانتقاد شخص الرئيس أو تداول الحكايات حوله. فهناك الكثير من القصص المفقودة، والمحاطة بالغموض، ما يعزل بعض السوريين ضمن فقاعة من الطاعة، تحوي سلوكيات وحكايات تحتفي بالقائد وتبجله، وتفديه بالروح والدم، سواء في الشارع أو في مجلس الشعب.
وهنا تأتي حكايات الثورة السوريّة أو تلك التي تكشف حقيقة الأسد، بوصفها شكلاً من أشكال إعادة كتابة التاريخ، بصورة رسميّة وغير رسميّة، فكما اختفى الكثير من الأدلة على جرائم الأسد، تعتبر هذه المحاولات جهداً هاماً لمواجهة سياسات "الإخفاء" التي يمارسها النظام السوري.

المساهمون