نصر الدين طوبار: الابتهال من أوله

23 مايو 2019
يستخدم طوبار كل إمكاناته متنقلاً بين المقامات (أرشيف)
+ الخط -
لم يكن الشيخ نصر الدين طوبار (1920 - 1986)، منشداً تقليدياً، إذ اختط لنفسه طريقاً وأسلوباً متفرداً، مستغلاً ما في طبيعة صوته من ضراعة وانكسار، حتى أصبح أحد أهم رواد فن الإنشاد الديني في مصر والعالم الإسلامي.

كان طوبار صاحب طموح كبير، فقد رأى بنفسه ما تمنحه الجماهير من حب وتقدير لكبار المشايخ من القراء والمنشدين. وفي محاولات الشيخ لنيل الشهرة والمكانة، تعرض طوبار لمرات متتالية من الإحباط، بما يكفي لتحطيم أي أمل، ونسيان كل تفكير في الصعود إلى مرتبة الكبار.

عرف الشيخ طريق النجاح، يوم أن عرف إمكاناته الصوتية، وما يمكن أن يرضي به الجماهير، فتوقف عن محاولات الالتحاق بالإذاعة كقارئ للقرآن الكريم، بعدما حدث نفسه بأن الساحة تمتلئ بأعلام يصعب معهم ظهور نجم جديد، فالجيل كله جيل عمالقة، ولن يجد الشيخ موطئ قدم بينهم، ماذا سيفعل أمام أصوات من أمثال مصطفى إسماعيل، وعبد الفتاح الشعشاعي، وكامل البهتيمي، ومحمد صديق المنشاوي؟ لذا قرر طوبار أن يطرح نفسه على المستمعين منشدا يحاول تقديم لون جديد.

لكن دولة الإنشاد لم تزل قوية، وتزدحم ساحتها بعدد من العمالقة، على رأسهم صاحب الصوت المقتدر الشيخ طه الفشني، وإلى جواره كبار، كالشيخ محمد الفيومي، وعبد السميع بيومي؛ ولكي يتميز طوبار وسط هؤلاء، فقد قرر أن يهتم كثيرا بالابتهالات، والأداء الفردي الضارع الخاشع، أكثر من اهتمامه بالتواشيح والأداء مع بطانة، وإنشاد المولد، فرغم إجادته لهذه الألوان، إلا أن مستواه فيها لم يكن ليضعه في طبقة عمالقة الإنشاد.

وليست مبالغة أن نصر الدين طوبار هو مؤسس فن الابتهال، ومقعد قواعده، ورافع رايته من بين المنشدين جميعا، فقد اتكأ الشيخ في أدائه على الضراعة الخاشعة، والمناجاة الباكية، ودخل صوته إلى قلوب الجماهير، التي تلهفت للاستماع إلى كلمات طوبار المختارة بعناية، وإلى أدائه الممتلئ بالشجن والحزن.
ولا تتضح هذه الحقيقة إلا بإدراك الفرق بين أقسام الإنشاد الديني، ولا سيما بعدما رسخت الإذاعة في وعي جمهور المستمعين معنى خاطئاً بإطلاقها لفظة "ابتهال" على كل أشكال الإنشاد الديني، حتى لو كانت القطعة المقدمة قصيدة، أو موشحاً، أو قصة المولد. ومن يبحث في تاريخ الإنشاد المسجل ومساراته الزمنية، سيدرك أن لون "الابتهال" لم يتبلور بصورة كاملة وواضحة إلا مع ظهور الشيخ طوبار، فما قبله لم يكن إلا تسابيح وأدعية تمهد غالبا لأذان الفجر.

وإذا أخذنا تسجيلات الشيخ علي محمود مثالاً للتأمل، فإننا لا نجد فيها لون "الابتهال" أبداً، إذ تقع بين ألوان ثلاثة: قصيدة مثل "أدخل على قلبي المسرة والفرح"، أو موشح مثل "اقرأ اللوح البياني الأتم" أو مولد مثل البرزنجي أو المناوي.

عند دراسة تراث الشيخ طوبار، هناك شخصيتان للمنشد الكبير، أو بالأحرى أسلوبان مختلفان في الأداء، فالابتهالات الإذاعية، المسجلة داخل استديو، تتسم بالخشوع، والتمسك بمقام موسيقي واحد، بل ويغلب عليها ترك التطريب، وما زالت هذه الابتهالات تلقى قبولا واسعا بين المستمعين، بينما يختلف الشيخ تماما في أدائه وسط جماهيره، لا سيما في الليالي الاحتفالية، والسرادقات الكبيرة، حيث يستخدم طوبار كل إمكاناته، ويوظف درايته الموسيقية، متنقلا بين المقامات المختلفة، ومقدما جرعات من الطرب الذي يرضي الباحثين عن "السلطنة".

المستمع الخبير يعرف أن طوبار يتحسس جمهوره في الدقائق الأولى، ويختبر رغبة المستمعين المحتشدين، ومدى وعيهم بفنون التلوين النغمي، والأداء الطربي، وبقدر تجاوب الجمهور مع هذا الأداء يكون عطاء طوبار، طربا، وثراء، وإشباعا للمتعطشين إلى فن يتسم بالتركيب، ويبتعد عن الاستسهال.

كان الشيخ نصر الدين طوبار من أحرص المنشدين على انتقاء الكلمات المؤثرة الرقيقة، ذات الوقع المباشر على المستمع، وعلى سبيل التمثيل تلك الكلمات التي كتبها له الشاعر الشيخ الصاوي شعلان، واشتهرت للغاية في أرجاء العالم الإسلامي: "بالله إيماني.. وفيه رجائي.. وإلى علاه ضراعتي وبكائي.. يا مؤنسي.. في وحدتي.. يا منقذي.. في شدتي.. يا سامعا لندائي.. فإذا دجى ليلي.. وطال ظلامه.. ناديت يا رب.. فكنت ضيائي".
حرص الشيخ طوبار على التنويع المقامي في ابتهالاته المسجلة للإذاعة، ومن أشهرها: يا إله العالمين حنيني دائم (مقام بياتي)، ومجيب السائلين حملت ذنبي (مقام راست)، وطال في ساحة الرجاء دعائي (مقام سيكاه)، يا من ملكت قلوبنا (مقام نهاوند)، وهو الله رب الوجود ولا معبود إلا هو (مقام جهاركاه). كما سجل بعض التواشيح مع البطانة، لعل من أشهرها يا من رضيت لنا دين الهدى دينا (مقام صبا)، ويا من له في يثرب روضات (مقام حجاز).
انتشر صوت طوبار في ربوع مصر، ومنها إلى أنحاء العالم الإسلامي، وتعددت زياراته للدول العربية والإسلامية، بل ودعي إلى عدد من الدول الغربية، من أهمها الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، حيث أنشد على مسرح قاعة ألبرت في لندن، وبلغ أثر صوت الشيخ على القلوب إلى درجة أن يسلم لسماعه من لا يفهم اللغة العربية… وكان فجر الجمعة من كل أسبوع موعدا ينتظره محبو الشيخ في أرجاء مصر والعالم الإسلامي، كي تصافح آذانهم صوت طوبار في ابتهالات الفجر، التي جعلها الشيخ حية نابضة، تسمع فيها صيحات الاستحسان من آلاف المتوافدين إلى مسجد الحسين لأجل لقاء مباشر مع منشدهم الأثير. 

ورغم مرور نحو 3 عقود على رحيل طوبار، إلا أنه ترك فراغا لم يملأه أحد، وما زالت الجماهير تحن لصوته الرقيق، وأدائه الخاشع: "إن لم ينل منك العليل شفاءه منا وفضلا لم يفز بشفاء.. إن لم تكن بك للغريب هداية طال الطريق على الغريب النائي.. إن لم تكن منك المعونة لم يفز أحد من الدنيا بنيل رجاء.. سبحت باسم علاك يا رب.. فإذا سكت اللسان لسبحت أعضائي".
دلالات
المساهمون