التحوّلات نحو حداثة تزيح تراثا وثقافة، عُرفت بها اليابان، وشكّلت خصوصيتها، وشغلت بال مثقّفيها وفنّانيها، على مدى عصور. ظهر ذلك في الأدب، وفي السينما بدرجة أقلّ. فيلم "حكاية إيا" (2013)، لتَتسيشيرو ستا (1984)، إعلان غاضب عن نهاية يابان وظهور أخرى مختلفة القِيَم، متوافقة مع تحوّلات كونية، ومنحنية أمامها، وغير قادرة على مقاومتها.
يقاربه في الهاجس نفسه "يقولون لا شيء يبقى على حاله" (2019)، لجو أوداجيري (1976)، المعروض في الدورة الثالثة (19 ـ 27 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، مع انشغالٍ أكبر بماهية اليابانيّ، وسؤاله عن مصير الحضارة اليابانية وفلسفتها الممَجِّدة للذات الفردية، المترفّعة عن صغائر مادية، ومباهج جسدية.
في التحفتين، الطبيعة بطل مطلق. على خرابها، وعلى ما تشهده من اضطرابات، يُبنى السرد الروائي. في منجز ستا، يكون الاضطراب ترميزا، بشقّ شركة بناء نفقا عملاقا في قلب أحد الجبال المحيطة بقرية "إيا". وفي رائعة أوداجيري، تُصاب الطبيعة بالاضطراب بسبب بناء جسر على ضفتيّ نهر، كان قارب رجل عجوز "يُجسّر" بينهما. لم يدرك تويتسي (أكيرا إيموتو) جسامة الخطر الذي يهدّد عيشه، وما سيغيره ذلك الجسر في طبيعة بشر رافقهم أعواما في ذهابهم وإيابهم على قاربه الصغير.
جمال الفيلمين في تصويرهما. مشهديات بصرية مذهلة، يتغيَّر مزاجها، وتشتدّ قوّة تعبيرها بتغيّر زوايا التقاطها. التصوير فيهما يتشارك في كتابة النص، ويتدخّل في مساره السردي. يزيح الحوار أحيانا، ويكون بديلا له، حين تلتزم شخصيات رئيسية فيه صمتا شبه تام. يُقارب سكوت الجدّ (مين تاناكا)، طيلة زمن سرد "حكاية إيا" (169 دقيقة)، اقتصاد تويتسي في كلامه، طيلة زمن سرد "يقولون لا شيء يبقى على حاله" (137 دقيقة). تعابير الوجوه الباردة للشخصيات تزيد من غموض الجدّ والعجوز. التعبير الأفصح عنها يأتي من فعل شخصيات قريبة منهما. تلازمهما وتكشف بعض جوانيّاتهما. دور تلعبه الصبية هارونا (رينا تاكيدا) مع جدّها، ويُناط للشاب "الأخرق" غينزو (موراكامي نيجيرو) تأديته، فهو الرفيق الوحيد لتويتسي.
الانقلاب الدراماتيكي في حياة تويتسي يحدث بعد عثوره على فتاة غارقة في النهر (يو أوي). ظنّ أول الأمر أنّها ميتة. لكنه، بعد نقلها إلى كوخه، يكتشف أنها لا تزال حيّة. في "حكاية إيا"، يعثر الفلاح العجوز على طفلة رضيعة، مرمية على مبعدة من سيارة، فَقَد سائقها السيطرة عليها، فانحدرت في الوادي السحيق، وفارق الحياة. مصادفة عجيبة تجعل منه "جَدّا" لها.
العجوزان اليابانيان يرعيان فتاتين غريبتين، تُصبحان بفعل الزمن شاهدتين على رؤية مخرجي الفيلمين للتحوّلات التاريخية في بلدهما، المتقاربتين إحداهما مع الأخرى تقريبا. في "يقولون لا شيء يبقى على حاله"، يرصد أوداجيري بداية دخول اليابان العصر الرأسمالي، عبر حكاية بناء جسر، في فترة تدشين الحاكم ميجي مرحلة مجاراة اليابان العصر الصناعي الغربي، الذي يعتبر المؤرّخون فترة حكمه (1868 ـ 1912) بداية ازدهار المجتمع الياباني، بينما يرى فيها أوداجيري بداية التخلّي عن القيَم الروحية والفلسفات الشرقية.
اقــرأ أيضاً
في "حكاية إيا"، يعاين تتسيشيرو مرحلة أخرى متقدمة من تطور الرأسمالية اليابانية، لم تكتفِ بتحويل المدن الكبرى إلى حاضنات صناعية، لوصولها إلى أقاصي البلد، حيث تُعيد إنتاج نفسها، وتحيل الأراضي البكر إلى مصانع وأنفاق تتوسّع سريعا، وتلغي في طريقها أنماطا زراعية تقليدية، وتُفسد توازنا بيئيا.
بعض تلك التحولات الكبيرة تعيشه هارونا في قريتها. لم يعد نمط الحياة فيها يُشبع الحاجات المادية لأهلها، الذين هاجر منهم كثيرون إلى المدينة، بينهم هي التي تذهب إلى طوكيو بعد وفاة جدّها. ورغم احتجاجات السكان، يُفتتح النفق. يجعل ستا من هارونا وقريتها عينة لآخر المدن اليابانية المستسلمة أمام الحداثة الغربية، من دون خوض عميق في أبعادها الفلسفية. على عكسه، يشتغل أوداجيري، الممثل الذي يقف وراء الكاميرا للمرة الثانية، بعد أولى قبل 10 أعوام، بإنجازه فيلما قصيرا بعنوان "البحث عن شجرة الكرز" (2009).
في روائيّه الطويل الأول، ينقل أوداجيري خلاصة تجربته ـ كأحد أهم الممثلين المشتغلين والمتأثرين بكبار صناع الموجة اليابانية الجديدة، أمثال كيوشي كوروساوا وكيم كي - دوك وهيروكازو كوري ـ إيدا ـ إلى بطله توتشي، طالبا منه الاكتفاء بالتعبير عن جوانيّاته بنظرات متأمّلة، وبسلوك متعالٍ على الصغائر، وبدواخل تنضح تآزرا ومساندة. ولتحقيق ملحمة بصرية، قادرة على نقل المكان وتحوّلاته الهائلة بالصُور، يُراهن أوداجيري على عبقرية المصوّر كريستوفر دويلي، وعلى مستوى الاشتغال الموسيقي لتيجران هامسيان، الذي يريده أنْ يوازي الكاميرا فنيا، وأنْ يتكامل معها وظيفيا. طوال مدّة الفيلم، يتغيّر النهر وعابروه بقارب الرجل العجوز، الذين يتأثرون بما يحدث على ضفتيه.
من دون الإفصاح عن قناعاته في الحياة، تتسرب قيَم فلسفة الـ"زان" من تصرّفاته. توتشي مؤمن بفكرة أنّ وجود الكائن مكرّس كليا لمساعدة الآخرين، وأنْ لا تكون له في هذه الدنيا مطامع. لذا، عليه تقديم كلّ ما يملك للكائنات المحيطة به برضى. هذا يفسّر سلوكه وبساطة عيشه، ويُفسِّر أيضا سبب مساعدته الفتاة، وقبولها في بيته، من دون التساؤل عن ماضيها، رغم ما تقوله إشاعات تصله من ركّاب عابرين، يتسلّون بقصص الآخرين وأخبارهم. وبقدر انطوائه في الخارج، هو منفتح على الكون بسعة دواخله. هو كائن متوحّد مع النهر، وجَدّ هارونا متوحّد مع الجبل والأرض التي يزرعها. توحّدهما مع المكان، ومنح كل ما يملكان، تعبير عن امتنان لما يقدّمه المكان لهما.
في مشهد مؤثّر، يطلب شاب من توتشي مساعدته على دفن والده في عمق الغابة، من دون عِلم أحد. والده صياد يعيش سابقا على ما تمنحه له الطرائد البرية من غذاء. قبل موته، يوصي بمكافأتها، فيطلب من ولده ترك جسده غذاء لها. المشهد اللّيلي الممطر هذا مُصوَّر بكاميرا وإنارة مذهلتين، غير بعيد عن اللقطة، المصوّرة بكاميرا يوتاكا آوكي، للجَدّ وهو يهرول وسط عاصفة ثلجية إلى السيارة المنحدرة في أسفل الوادي. يفتح المشهد كوّة واسعة لرؤية بقايا عالم منعزل، تقتحمه "الحضارة"، فتُبيّن أحداث تالية له كمّ أنّ تلك البيئات البعيدة واهية وضعيفة القدرة، وعاجزة كليًا عن مواجهة مدّ رأسمالي كاسح.
رؤية قريبة منها يؤجّلها أوداجيري إلى النهاية، حين يُقدم الشاب "الأخرق" على اغتصاب الفتاة. فالحضارة تُفسد روحه، وهو لم يعد ذلك الكائن البسيط المتهافت على تقديم العون والمساعدة للغير.
فهو تَغيّر، كما تَغيّر كلّ شيء على ضفتيّ النهر.
في التحفتين، الطبيعة بطل مطلق. على خرابها، وعلى ما تشهده من اضطرابات، يُبنى السرد الروائي. في منجز ستا، يكون الاضطراب ترميزا، بشقّ شركة بناء نفقا عملاقا في قلب أحد الجبال المحيطة بقرية "إيا". وفي رائعة أوداجيري، تُصاب الطبيعة بالاضطراب بسبب بناء جسر على ضفتيّ نهر، كان قارب رجل عجوز "يُجسّر" بينهما. لم يدرك تويتسي (أكيرا إيموتو) جسامة الخطر الذي يهدّد عيشه، وما سيغيره ذلك الجسر في طبيعة بشر رافقهم أعواما في ذهابهم وإيابهم على قاربه الصغير.
جمال الفيلمين في تصويرهما. مشهديات بصرية مذهلة، يتغيَّر مزاجها، وتشتدّ قوّة تعبيرها بتغيّر زوايا التقاطها. التصوير فيهما يتشارك في كتابة النص، ويتدخّل في مساره السردي. يزيح الحوار أحيانا، ويكون بديلا له، حين تلتزم شخصيات رئيسية فيه صمتا شبه تام. يُقارب سكوت الجدّ (مين تاناكا)، طيلة زمن سرد "حكاية إيا" (169 دقيقة)، اقتصاد تويتسي في كلامه، طيلة زمن سرد "يقولون لا شيء يبقى على حاله" (137 دقيقة). تعابير الوجوه الباردة للشخصيات تزيد من غموض الجدّ والعجوز. التعبير الأفصح عنها يأتي من فعل شخصيات قريبة منهما. تلازمهما وتكشف بعض جوانيّاتهما. دور تلعبه الصبية هارونا (رينا تاكيدا) مع جدّها، ويُناط للشاب "الأخرق" غينزو (موراكامي نيجيرو) تأديته، فهو الرفيق الوحيد لتويتسي.
الانقلاب الدراماتيكي في حياة تويتسي يحدث بعد عثوره على فتاة غارقة في النهر (يو أوي). ظنّ أول الأمر أنّها ميتة. لكنه، بعد نقلها إلى كوخه، يكتشف أنها لا تزال حيّة. في "حكاية إيا"، يعثر الفلاح العجوز على طفلة رضيعة، مرمية على مبعدة من سيارة، فَقَد سائقها السيطرة عليها، فانحدرت في الوادي السحيق، وفارق الحياة. مصادفة عجيبة تجعل منه "جَدّا" لها.
العجوزان اليابانيان يرعيان فتاتين غريبتين، تُصبحان بفعل الزمن شاهدتين على رؤية مخرجي الفيلمين للتحوّلات التاريخية في بلدهما، المتقاربتين إحداهما مع الأخرى تقريبا. في "يقولون لا شيء يبقى على حاله"، يرصد أوداجيري بداية دخول اليابان العصر الرأسمالي، عبر حكاية بناء جسر، في فترة تدشين الحاكم ميجي مرحلة مجاراة اليابان العصر الصناعي الغربي، الذي يعتبر المؤرّخون فترة حكمه (1868 ـ 1912) بداية ازدهار المجتمع الياباني، بينما يرى فيها أوداجيري بداية التخلّي عن القيَم الروحية والفلسفات الشرقية.
في "حكاية إيا"، يعاين تتسيشيرو مرحلة أخرى متقدمة من تطور الرأسمالية اليابانية، لم تكتفِ بتحويل المدن الكبرى إلى حاضنات صناعية، لوصولها إلى أقاصي البلد، حيث تُعيد إنتاج نفسها، وتحيل الأراضي البكر إلى مصانع وأنفاق تتوسّع سريعا، وتلغي في طريقها أنماطا زراعية تقليدية، وتُفسد توازنا بيئيا.
بعض تلك التحولات الكبيرة تعيشه هارونا في قريتها. لم يعد نمط الحياة فيها يُشبع الحاجات المادية لأهلها، الذين هاجر منهم كثيرون إلى المدينة، بينهم هي التي تذهب إلى طوكيو بعد وفاة جدّها. ورغم احتجاجات السكان، يُفتتح النفق. يجعل ستا من هارونا وقريتها عينة لآخر المدن اليابانية المستسلمة أمام الحداثة الغربية، من دون خوض عميق في أبعادها الفلسفية. على عكسه، يشتغل أوداجيري، الممثل الذي يقف وراء الكاميرا للمرة الثانية، بعد أولى قبل 10 أعوام، بإنجازه فيلما قصيرا بعنوان "البحث عن شجرة الكرز" (2009).
في روائيّه الطويل الأول، ينقل أوداجيري خلاصة تجربته ـ كأحد أهم الممثلين المشتغلين والمتأثرين بكبار صناع الموجة اليابانية الجديدة، أمثال كيوشي كوروساوا وكيم كي - دوك وهيروكازو كوري ـ إيدا ـ إلى بطله توتشي، طالبا منه الاكتفاء بالتعبير عن جوانيّاته بنظرات متأمّلة، وبسلوك متعالٍ على الصغائر، وبدواخل تنضح تآزرا ومساندة. ولتحقيق ملحمة بصرية، قادرة على نقل المكان وتحوّلاته الهائلة بالصُور، يُراهن أوداجيري على عبقرية المصوّر كريستوفر دويلي، وعلى مستوى الاشتغال الموسيقي لتيجران هامسيان، الذي يريده أنْ يوازي الكاميرا فنيا، وأنْ يتكامل معها وظيفيا. طوال مدّة الفيلم، يتغيّر النهر وعابروه بقارب الرجل العجوز، الذين يتأثرون بما يحدث على ضفتيه.
من دون الإفصاح عن قناعاته في الحياة، تتسرب قيَم فلسفة الـ"زان" من تصرّفاته. توتشي مؤمن بفكرة أنّ وجود الكائن مكرّس كليا لمساعدة الآخرين، وأنْ لا تكون له في هذه الدنيا مطامع. لذا، عليه تقديم كلّ ما يملك للكائنات المحيطة به برضى. هذا يفسّر سلوكه وبساطة عيشه، ويُفسِّر أيضا سبب مساعدته الفتاة، وقبولها في بيته، من دون التساؤل عن ماضيها، رغم ما تقوله إشاعات تصله من ركّاب عابرين، يتسلّون بقصص الآخرين وأخبارهم. وبقدر انطوائه في الخارج، هو منفتح على الكون بسعة دواخله. هو كائن متوحّد مع النهر، وجَدّ هارونا متوحّد مع الجبل والأرض التي يزرعها. توحّدهما مع المكان، ومنح كل ما يملكان، تعبير عن امتنان لما يقدّمه المكان لهما.
في مشهد مؤثّر، يطلب شاب من توتشي مساعدته على دفن والده في عمق الغابة، من دون عِلم أحد. والده صياد يعيش سابقا على ما تمنحه له الطرائد البرية من غذاء. قبل موته، يوصي بمكافأتها، فيطلب من ولده ترك جسده غذاء لها. المشهد اللّيلي الممطر هذا مُصوَّر بكاميرا وإنارة مذهلتين، غير بعيد عن اللقطة، المصوّرة بكاميرا يوتاكا آوكي، للجَدّ وهو يهرول وسط عاصفة ثلجية إلى السيارة المنحدرة في أسفل الوادي. يفتح المشهد كوّة واسعة لرؤية بقايا عالم منعزل، تقتحمه "الحضارة"، فتُبيّن أحداث تالية له كمّ أنّ تلك البيئات البعيدة واهية وضعيفة القدرة، وعاجزة كليًا عن مواجهة مدّ رأسمالي كاسح.
رؤية قريبة منها يؤجّلها أوداجيري إلى النهاية، حين يُقدم الشاب "الأخرق" على اغتصاب الفتاة. فالحضارة تُفسد روحه، وهو لم يعد ذلك الكائن البسيط المتهافت على تقديم العون والمساعدة للغير.
فهو تَغيّر، كما تَغيّر كلّ شيء على ضفتيّ النهر.