ما يُظهره "الإخفاء": تناظرٌ موسيقي يتوارى خلف التجريب

17 يونيو 2018
+ الخط -
منذ ثمانية أشهر تقريبًا، صدر ألبوم "الإخفاء"، تحت ما يمكن تصنيفه على أنه من نوع "الموسيقى التجريبية المعاصرة". عندما نستمع إلى موسيقى تجريبية، علينا أن نعلم أن مؤلّفي هذه الموسيقى لا ينظرون إليها مثلما قد نكون نظرْنا إليها سابقًا، أو مثلما يمكن أن نكون قد اعتدنا عليها؛ أي الموسيقى المكوّنة من الجمل التي نتوقّع وجود مسار أو صخب محدّدين لها، أو تلك التي قد تُقدَّم فيها مسألة التعقيد الموسيقي على القيمة التعبيرية.

أول ما يهم في الموسيقى التجريبية هو المادة السمعية بأبسط ما في ذلك من معنى: نقرة على الخشب، رنين جرس مهما كان ارتفاعه (pitch)، زخّات مطر أيا كانت سرعتها. قد لا يصل الأمر دائمًا إلى هذا الحد من البدائية، لكن مقصد هذه الأمثلة التدليل على جوهر معنى المادّة السمعية في حالتنا هذه. بالرغم من أن التجريب في الموسيقى المعاصرة قد يبدو مليئًا بكسر القواعد وبنزوعٍ إلى "التركيب"، وبأنه يضمّ صُدَفٍ أو نصف صدف أو حتى العفوية، إلا أن هذه الموسيقى تحتوي كذلك على درجات عدة من كسر القواعد الموسيقية.

لقد تغيّر مفهوم التجريب الموسيقي عبر التاريخ بدءًا من القرن التاسع عشر وصولًا حتى منتصف القرن العشرين، حين كان التجريب لا يتنافى مع وجود قواعد، حتى وإن كان قائمًا على رفض القواعد السابقة. لقد كان هنالك حرصٌ، دومًا، على احترام قواعد جديدة صارمة متّبعة كما هو الحال في الموسيقى الغربية الحديثة الأدنوية، أو التسلسلية. لكن الآن، بات مفهوم التجريب يعني التفلّت التام من أيّ قواعد موسيقية. فمنذ منتصف القرن العشرين، وحتى اليوم، بات للتجريب نفسه القيمة الفضلى؛ بمعنى أن أي تجريب بات جيّدًا، وقد جاءت موسيقى الروك في هذا السياق، على سبيل المثال. بهذا المعنى، فإنّ الموسيقى التي أتت في ألبوم "الإخفاء" (لـ مريم صالح وتامر أبو غزالة وموريس لوقا / شعر: ميدو زهير) بوصفها موسيقى تجريبية معاصرة، ليست بالجديدة تمامًا، أي بالمعنى المعرفي لكلمة جديد. ومن حيث أن هناك درجات من تخطيّ القواعد الموسيقية؛ فموسيقى هذا الألبوم/المشروع الذي توجد فيه جرأة تأليفية، لا يمكن اعتبارها، برأينا، أكثر الأعمال كسرًا للقواعد الموسيقية.


البساطة والتعقيد واللاتوقُّع
سنبيّن خلال محاولتنا في تحليل ألبوم "الإخفاء"، أن أهم ما يشكّل موسيقاه هو مبدأ وجود التناظر/انعدام التناظر (Symmetry) بين الموسيقى والإيقاع من جهة، والكلمات من جهة أخرى. أضف إلى ذلك أنه غالبًا ما يكون هناك جملة لحنية واحدة، أو اثنتان، تؤلّفان محور الأغنية وتتضمّنان عدّة انتقالات تونالية. ويتمّ إلى جانب ذلك في الألبوم استغلال فرق الارتفاع (Pitch) والنوع (Timbre) الصوتيين بين كلّ من مريم صالح وتامر أبو غزالة، من أجل تنويع أشكال الانسجام الموسيقي (Harmony)، كما أنّه لدينا عنصر "اللاتوقّع" الذي يملأ الألبوم. هذا العنصر قد يكون موجودًا في نقلة تونالية أو مقامية (الانتقال من سلم مركزيّ إلى آخر، أو من مقام إلى آخر) أو في مبدأ التناظر الذي سبق وذكرناه. أما التلحين الذي يمكن ضبطه بالقواعد الموسيقية؛ فبرأينا أنه يتلاقى ميلوديًّا مع طريقة التعبير الكلاميّة، وهو بذلك يحتوي على قوّة تعبيرية "تختفي" وراء ما يبدو أنه مجرّد "أداء تعبيري بسيط"، فتتناسق أغاني الألبوم من حيث التأليف الموسيقي والكلمات، لكنها تتنوّع من حيث السرعة والصخب وعناصر اللامتوقّع الموجودة فيها.

يُلاحَظ في ترتيب الأغاني، أن أول أغنية هي "كنت رايح"، والأخيرة هي "عايز أوصل". قد لا يعني ذلك الكثير سوى، على سبيل التخمين، إرادة الموسيقيين في "الإيحاء" بشيء ما، مثلما يحاولون فعل ذلك في الأغاني التي يقدّمونها في "الإخفاء". في أغنية "كنت رايح"، ثمّة جملتان لحنيتان تدور حولهما الأغنية، لكن أوّل جملة التي تبدأ كلماتها بـ "كنت رايح، كنت رايح/ كنت عازم إني أقول"، والتي تعاد وصولًا إلى "فجأة يقفش رجلي غول"، وهي تقريبًا نفسها التي يغنّيها أبو غزالة من "فجأة واقف" وحتى "مش هقول"، إلا أنّ فرق ارتفاع الصوت بينهما يضفي تنويعًا عليها. إلى جانب ذلك، هناك تنويع على الجملتين الموسيقيتين المحوريّتين من حيث الإيقاع؛ ففي الأبيات التي يغنّيها أبو غزالة ينقسم الكلام أكثر على الإيقاع، بحيث أن المقطع الذي يغنّيه -وهو 16 بيت يعادل كل ثمانية منهما وحدة زمنيّة من 4 ضربات إيقاع بطيئة- يعادل الأبيات الثمانية التي تغنّيها مريم صالح.

أما أغنيتا "نفسي فعقلي" و"إيقاع مكسور" فتتشابهان، وذلك ليس فقط في الضرب الإيقاعي المهيمن فيهما، لكن من حيث الشكل أيضًا. ففي آخر الأغنيتين، هناك "شرود" غير متوقّع حيث أن الموسيقى "كما نعرفها" يبدو أنها بصدد الانتهاء المبكّر. وهما تتشابهان في ذلك أيضًا مع أغنيتي "متحف فنون الغش" و"ماكونش وأكون". لكن يعود الفضل في "عدم انتهاء الأغنية فعليًّا" إلى وجود الموسيقى الإلكترونية، كما ظهر في التوزيع.

تتميّز أغنية "نفسي فعقلي" بأن فيها لامتوقّعًا من نوع آخر، وهو كثرة النقلات التونالية والميلودية في المقطع الذي يغنّيه أبو غزالة، والذي يبدأ مع "وفجأة تبص تلاقني على كل الصيع لايف"، مرورًا بـ"وافرح لجل شيء هايف" التي يتخللها نقلة تونالية والتي تمهّد لتلبّد الغيوم مع صعود الموسيقى بدرجاتها في "وأحب فلحظة أكون طايش أقوم لايش ومش شايف"، إلى أن تتبدّد الغيوم مع جملة "وأنا شايف وأنا عارف بس مش عارف"، التي تعود بنا كذلك إلى بر الأمان وإلى السلم الأساسي الذي بدأت به الأغنية.

أما أغنية "إيقاع مكسور"، ففيها خصوصية تتمثّل بتعدد الجمل الإيقاعية وعلو صوت الإيقاع؛ حيث نسمع جملًا إيقاعية مختلفة ومعقّدة من آلات متعدّدة، من بينها الدرامز والإيقاعات الإلكترونية. هذه الجمل الإيقاعية تتعارض بحلّتها الصاخبة المعقّدة مع البساطة التي يغنّي بها كلّ من تامر أبو غزالة ومريم صالح؛ ما يعزّز صخب الأغنية.

وبالنسبة إلى أغنية "ماكنش وأكون"، فاللامتوقّع فيها هو ذاك التنافر الموسيقي (Dissonnance) الذي يتمثّل بجملتي "بقيت مجنون" و"أظن ظنون" والذي يكفل كسر الرتابة النسبية في الأغنية. أما في أغنية "وشوش الليل" فنسمع جملة موسيقية صغيرة محورية أولى، كلماتها تتألّف من أول أربعة أبيات، تليها جملة موسيقية ثانية صغيرة كلماتها هي الأبيات الأربعة التالية. يتخلّل هاتين الجملتين مرورٌ بعدّة سلالم موسيقية، لعلّ أوّلها "صول ماجور"، ثم انتقال إلى "المي مينور"، ثم "مي بيمول ماجور"، ثم عودة إلى "صول ماجور"، بفضل نوتات مشتركة.

تتميّز أغنية "الشهوة والسعار" بأن الجملة الموسيقية المحورية فيها مقسّمة على كل بيتين وتعاد برتابة نسبيّة على مدى 12 بيتًا، لكن تتوقّف هذه الرتابة بشكل استثنائي في اللحظة التي لا يجد البيت الثالث عشر بيتًا آخرَ يكمله موسيقيًّا. ويرافق هذا الأمر تأخّر الكلمات عن الموسيقى والإيقاع، وكسر التناظر الذي كان قائمًا من قبل. وإنّ ما يكسر الرتابة النسبية في هذه الأغنية هو التنويع المستمر في النوتة التي تبدأ بها الجملة الموسيقية المحورية؛ ما يخلق أصوات تتنافر وتنسجم مع بعضها في نفس الوقت.

إذا ما أردنا تكثيف الاستنتاج من الدراسة التقنية؛ فإنّ ألبوم "الإخفاء" يقوم على عناصر موسيقية معقّدة وأخرى بسيطة نسبيًا، يتم توظيفها بشكل متمرّس من قبل الموسيقيين إياهم. ولعل الشق البسيط في تلك العناصر يتمثّل باستخدام صوتين يتميّزان عن بعضهما بالارتفاع والنوع (امرأة/رجل) أو الانتقال تونالي أو التناظر أو انعدامه بين الموسيقى والكلمات، أما المعقّد فيقع من ناحية الشق التجريبي في الألبوم؛ أي قرار الموسيقيين بإضافة عناصر "لاتوقّع"، مع اختيارهم لتوقيت تلك العناصر، ومن الناحية الأخرى، التنويع المستمر على المادة السمعية، التي نتلقاها بفضل الموسيقى الإلكترونية ومؤثراتها.



طليعية الموسيقى التجريبية
يقع ألبوم "الإخفاء" في السياق التاريخي للموسيقى المعاصرة بامتياز، ليس فقط لأنه من ضمن الإنتاجات الموسيقية التي تقع في خانة "الموسيقى التجريبية المعاصرة"، والموجودة بكثرة وبتنوّع حول العالم، لكن أيضًا لكون موسيقييها يمثّلون نموذج الموسيقي المعاصر. فالموسيقي تامر أبو غزالة ينتج موسيقاه بنفسه، لا بل إنه ريادي في مجال الموسيقى، وربّما هو بصدد المساهمة في تشكيل سوق عربيّة موسيقية مستقلّة. هذا الأمر ليس بغريب؛ فمن الرائج جدًا أن يقوم الموسيقي المعاصر بإنتاج موسيقاه بنفسه، لأن هذا يضمن له حرّيته في التأليف، كما أنه يؤمّن بذلك وجوده كفاعل اقتصادي.

لكن ما هو استثنائي في هذا على المستوى العربي هو وضعية الامتياز التي يحظى بها هذا النوع من الموسيقيين في العالم العربي. وبهذا المعنى بالذات ما يمكن أن يعزى لألبوم "الإخفاء" من طليعية (Avant - guardisme) قد يتعلّق إلى حدّ ما بمادّته الموسيقية (وبأي موسيقى مماثلة)، لكن قد يتعلّق إلى حدّ آخر بكونه عبارة عن استثناء في عالم الموسيقى العربية.

من هذا المنطلق، فإنّ طليعية الموسيقى التجريبية المعاصرة العربية تكتسب معنى أهم في عالم الموسيقى العربية مما قد تكتسبه في الموسيقى الغربية. فما قد تضيفه على الموسيقى الغربية هو بعض الإيقاعات والميلوديّات الشرقية، أما في عالم الموسيقى العربية، فالموسيقى التجريبية المعاصرة تعطي امتيازًا كبيرًا لمن ينتجها أو لمن يستطيع أن ينتجها، وذلك في غياب غزارة إنتاجها في السوق العربية.

ففي حين أن المؤسسات العربية التي تتوجّه إلى الجمهور الأكبر والتي تنتج موسيقى "محترفة" وتنتج "موسيقيين محترفين"، وبالذات الحكومية منها، لم تستوعب التقدّم التقني والتكنولوجي الذي يخص الموسيقى، لتبقى للموسيقى المحترفة خصوصية طبقية. فمن جهة، مثلًا، لو كان هناك في المعاهد الموسيقية العربية قسم يختص بالإنتاج الموسيقي (Music Production) أو الموسيقى الإلكترونية، كما في كثير من المؤسسات التعليمية الموسيقية في العالم، لكان استطاع أي "مغنّي أفراح" أن يحظى بفرصة الاحتراف في الموسيقى الإلكترونية والإنتاج الموسيقي.

ومن جهة أخرى، فإن الاستخدام المبدع لبعض العناصر الموسيقية الموجودة في الموسيقى الشعبية والسائدة فيها، يتحوّل إلى تفرّدٍ على صعيد الاحتراف الموسيقي الإلكتروني لدينا. هذه الفكرة الأخيرة تشي بأن الموسيقى لا تكتنف في ذاتها قيمًا جمالية وحسب، وإنما أيضًا حقائق اجتماعية إلى حدّ ما. بعبارة أخرى، يعطينا الوسم المصري الشعبي في الموسيقى الإلكترونية المحترفة مثالًا عن كيفية تلاقي الجماليّات الموسيقية مع الامتياز الاجتماعي للموسيقيين المحترفين. لكن هذه الأمور لا تتم وفق منحى تآمري من قبل الموسيقيين، بل هو أمر "يحدث" بطبيعة الحال بوصفنا بشرًا في عوالم اجتماعية.

ومن حيث أن هذا الألبوم هو من جهة، إضافة إلى الموسيقى العربية التجريبية المعاصرة، إلا أنه ولهذا السبب أيضًا، هو في موقف قوي ومريح كونه يطرح نفسه موسيقيًا واجتماعيًا على أنه استثناء لا قاعدة. ولا شك أن إشكالية علاقة الموسيقى العربية التجريبية بالمستمع العربي هي جديرة بالتفكّر فيها في هذا السياق، خصوصًا أن هذا النوع من الموسيقى ينجح بتميّز من خلال مادّته الموسيقية الموضوعية، في استفزاز المستمع سلبًا أو إيجابًا.

المساهمون