موسم الاتجار بالجوع في لبنان

21 مايو 2020
لبنان تئن تحت الغلاء والضغوط (حسين بيضون/ العربي الجديد)
+ الخط -


على هامش معظم الأزمات الماليّة الكبرى، تتربّص حلقة ضيّقة من النافذين الذين يحترفون اقتناص الفرص. هذه الفئة تعرف كيف تراكم المال في ذروة الانهيارات بمعزل عن أخلاقيّة أو مشروعيّة الوسائل التي يلجؤون إليها، وبمعزل عن الكلفة التي ستدفعها مجتمعاتهم جرّاء هذه الممارسات. 

في لبنان، كانت طفرة هذه الفئة أبرز ما قفز إلى واجهة الأحداث خلال الأيام الماضية، من خلال عدّة أخبار متفرّقة ارتبطت جميعها بانتهاز بعضهم ظروف الانهيار المالي للكسب بأشكال غير مشروعة.

وعلى ما يبدو، ستبقى البلاد خلال الفترة القادمة بيئة خصبة لهذا النوع من الممارسات، خصوصاً في ظل التخبّط الذي تعاني منه الدولة اللبنانيّة من خلال تضارب القرارات والخطط والمعالجات بين أجهزتها المختلفة، وبالأخص بين الحكومة والمصرف المركزي.


شركات الصيرفة

خلال الأيام الماضية، ألقت الأجهزة الأمنية القبض على العشرات من أصحاب مؤسسات الصيرفة المرخّصة وغير المرخّصة، بمن فيهم نقيب الصرّافين الذي يُعد أحد أكبر النافذين في القطاع.

كان اللبنانيون قد اعتادوا منذ تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي على سماع أخبار عمليّات المضاربة على الليرة اللبنانيّة، التي تقوم بها مؤسسات الصيرفة في الأسواق. لكن التحقيقات كشفت هذه المرّة ما هو أخطر بكثير، وبالأخص لجهة وجود عمليّات تصل إلى حدود الاحتيال والتآمر الجماعي للتلاعب بسعر صرف الليرة.
باختصار، كانت مؤسسات الصيرفة تعلن من خلال النقابة عن إضراب بحجّة الاعتراض على توقيف بعض الصرّافين المخالفين.

وبينما كانت هذه المؤسسات تقفل شكليّاً في العلن، كان الصرّافون أنفسهم يطلقون عمليّات واسعة لشراء الدولار وتخزينه، من خلال شبكات خاصّة تعمل في الظل، مراهنين على المزيد من الهبوط في سعر صرف الليرة بفعل الإضراب نفسه الذي أقفل منافذ شراء الدولار في وجه المواطنين.

لكنّ تحليل الأحداث يثبت أيضاً أنّ في إضراب شركات الصيرفة ما هو أخطر من مجرّد التكتّل للتلاعب بسعر الصرف. فيوم عمّم مصرف لبنان قرار مصادرة الدولارات المتأتية من التحويلات الخارجيّة الواردة عبر شركات تحويل الأموال وسداد التحويلات بالليرة، كانت الخطّة تقضي بأن يقوم مصرف لبنان ببيع هذه الدولارات لاحقاً إلى الصيارفة لضبط سعر الصرف في الأسواق، وذلك من خلال منصّة خاصّة أسسها مصرف لبنان مؤخّراً، على أن يلتزم الصرّافون بسعر الصرف الأقصى الذي يحدده البنك المركزي لعمليات الصرف.

لم ترغب شركات الصيرفة بتطبيق أي جزء من هذه الخطّة قبل التفاوض والضغط لحماية جميع مكاسبها، وبالأخص لجهة آليّة عمل المنصّة وسعر الصرف الأقصى.

وهكذا، وبعد أن بدأ الإضراب بعنوان الاحتجاج على توقيف صرّافين مخالفين، انتقلت مطالب النقابة إلى التفاوض والتفاهم على آليّة عمل المنصّة.

وبدا واضحاً أيضاً أن الإضراب كان وسيلة للتملّص من الضوابط التي حاول مصرف لبنان فرضها على سعر الصرف وهوامش ربح الصرّافين. باختصار، كان الإضراب يفاقم تدريجيّاً من أزمة سعر صرف الليرة، وكانت شركات الصيرفة تذهب بعيداً في استعمال هذه الأزمة للضغط على جميع الأطراف لحماية مصالحها.

التهريب عبر الحدود

انتشرت خلال الأيام الماضية تسجيلات مصوّرة عديدة تعرض قوافل كبيرة من الشاحنات المحمّلة بالمحروقات والقمح، والتي تعبر الحدود من لبنان باتجاه الأراضي السوريّة.

فمع تفاقم أزمة سعر الصرف في لبنان، بات تهريب البضائع باتجاه الأراضي السورية عمليّة قادرة على تحقيق أرباح خياليّة، وتحديداً حين يتعلّق الأمر بالبضائع الحيويّة كالمحروقات والقمح.

فمصرف لبنان مازال يوفّر الدولارات بسعر الصرف الرسمي الأساسي (عند الـ 1507.5 ليرات للدولار) حين يتعلّق الأمر باستيراد البضائع الحيويّة، أي الأدوية والقمح والمحروقات. مع العلم أن مصرف لبنان يستعمل احتياطي العملات الأجنبيّة المتبقي لديه لتوفير الدولارات اللازمة لهذه العمليّات.
وهكذا، تمكّن الكثير من المهرّبين من الاستفادة من هذه المسألة، عبر استيراد البضائع الحيويّة إلى لبنان بسعر الصرف المنخفض والمدعوم من المصرف المركزي، بهدف تهريب هذه البضائع وبيعها لتجّار سوريين بالدولار النقدي الذي تفوق قيمته بكثير سعر الصرف الرسمي.

يمكن أن نقدّر نسبة الأرباح الخياليّة التي تمكّن هؤلاء من تحقيقها إذا عرفنا أن سعر الصرف الفعلي للدولار مقابل الليرة يوازي 2.8 مرّة سعر الصرف الرسمي المدعوم من مصرف لبنان.

في الواقع، تمثّل هذه العمليّات أحد أخطر التحديات التي يواجهها لبنان اليوم في ظل أزماته النقديّة والماليّة. فهذه العمليات تعني ببساطة استنزاف احتياطات مصرف لبنان المركزي من العملة الصعبة، التي يعتمد عليها لتوفير السلع الحيويّة، مقابل تحقيق أرباح كبيرة للمهرّبين.

وحجم هذه العمليّات الكبير، وضخامة السوق السوريّة القادرة على استيعاب المزيد من هذه البضائع، بالإضافة إلى تفلّت أجزاء كبيرة من الحدود، كلّها عوامل تعزز الاعتقاد بأن حجم هذا الاستنزاف سيزيد خلال الفترة القادمة.

تخبّط السياسات الرسميّة

إذاً، ثمّة من يستفيد اليوم من واقع الأزمة، ولو على حساب الغالبيّة الساحقة من اللبنانيين المتضررين من هذا الواقع. لكنّ الأسوأ في هذه المرحلة، هو عدم وجود أي انسجام بين المؤسسات الرسميّة للتعامل مع هذا النوع من المعالجات.

ففي أزمة الصيارفة مع مصرف لبنان وتعاميمه، ما زال التباين بين رئاسة الحكومة ومصرف لبنان قائماً. لا بل يعتبر رئيس الحكومة صراحةً أن قرارات مصرف لبنان ساهمت في مراحل معيّنة في تعميق هذه الأزمة. وهكذا، ومع التضارب في تقييم الأولويّات والتوجّهات، يصبح من الصعب صياغة خطّة متكاملة لتتعامل مع الأزمة على أساسها الدولة بأجهزتها المختلفة.
وفي موضوع أزمة التهريب وأثرها على الوضع النقدي واحتياطي العملات الصعبة، ما زال ملف التهريب ووضع الحدود مع سورية يخضع لاعتبارات وحساسيّات سياسيّة بالدرجة الأولى.

وعمليّاً، سيحتاج الموضوع إلى توافق سياسي على خطّة أمنيّة داخل الحكومة قبل كل شيء، وهو ما يحيلنا مجدداً إلى مسألة الانسجام بين السلطة التنفيذيّة ومصرف لبنان.

ببساطة، مازال ملف الانهيار المالي برمّته بعيدا عن المعالجة بتصوّر متكامل من قبل الدولة اللبنانية، وهذه الثغرة هي المكان الذي سيتسلل من خلاله تجّار الجوع دائماً.
المساهمون