قدمت الحكومة الانتقالية في السودان، فور تشكلها في سبتمبر 2019، وعوداً بتحسن الوضع الاقتصادي، وتجاوز الأزمة السابقة على ثورة ديسمبر 2018، كما أعلنت وزارة المالية تطبيق برنامج اقتصادي إسعافي، يستهدف معالجة الأزمة خلال 200 يوم، لكن الوعود لم تترجم إلى نتائج، خاصة القهر الاقتصادي والذي أشار إليه وزير المالية إبراهيم البدوي أثناء عرض خطة مواجهة نسب التضخم، وما زالت مشكلات ارتفاع أسعار أغلب السلع، ونقص بعضها، فضلاً عن تردي بعض الخدمات كالنقل قائماً.
مظاهر الأزمة
تتمثل أبرز مظاهر الأزمة المعيشية في ارتفاع أسعار السلع، وهو ما تشير إليه بيانات البنك المركزي السوداني، حيث سجل معدل التضخم ارتفاعا من 47.8 بالمائة نهاية يونيو 2019 إلى 53.53 بالمائة نهاية سبتمبر 2019، ووصل إلى 57% نهاية ديسمبر 2019، ليتصاعد إلى 64.3% نهاية يناير 2020، ويتوقع أن يستمر الارتفاع متأثراً بأسعار قطاع الأغذية والطاقة وقطاع التشييد، إذا استمرت الأزمة بشكلها الحالي، وعجزت الحكومة عن توفير سيولة نقدية، وهو ما يهدد بعودة أزمة التضخم كما كانت في ديسمبر 2018 قبل الاحتجاجات، والتي وصل فيها إلى 72.9%، وهذا بدوره يزيد أزمة الفئات الفقيرة في الحصول على المتطلبات المعيشية الأساسية.
السلع الغذائية
شكّل ارتفاع أسعار الزيوت والسكر، والخبز والدقيق مشكلة كبيرة لأغلب الأسر السودانية، كما يشكل توفير القمح عبئاً ضخماً وتحدياً للحكومة حالياً، في ظل محدودية إنتاج السودان، والذي لا يتجاوز 17% من احتياجاته، كما يعقد الوضع الفئات التي تستغل الأزمة، وأطراف تتحكم في السوق من أجل زيادة أرباحها، خاصة مجموعات المصالح التي كانت مرتبطة بالرئيس المخلوع عمر البشير، والتي تمتلك شبكة من الأنشطة التجارية، وهنا يعد ضبط ومراقبة الأسواق والتصدي لحالات الاستغلال المتزامنة مع الأزمة أمراً ملحاً.
وسبق أن تصدت حكومة عبد الله حمدوك لاتجاه اتحاد المخابز بشكل منفرد إلى مضاعفة سعر رغيف الخبز في أول فبراير الماضي، وأدى التهديد الحكومي بتطبيق إجراءات قانونية ضد الاتحاد في تأجيل قرار إلى رفع الأسعار، لكن ذلك على أهميته، لن يحل الأزمة، التي ستزيد إذا لم تتوفر سيولة نقدية لاستيراد القمح، خاصة مع إعلان وزير المالية مؤخرا أن الاحتياطي النقدي لن يكفي استيراد الكميات الضرورية من القمح لسد حاجة السوق لمدة أيام قليلة.
الوقود والنقل
كذلك طاولت موجة التضخم أسعار مستلزمات قطاع التشييد والبناء، وحسب تقارير محلية ارتفعت أسعار الأسمنت إلى 100% كما ارتفعت أسعار الحديد إلى ما يقارب 50%.
وتعد زيادة أسعار مشتقات الطاقة عاملا مؤثرا في ارتفاع الأسعار، سواء كانت ضمن مكونات الإنتاج، أو تشكل إضافة على تكلفة نقل السلع، وارتفعت أسعار الوقود مؤخراً، وتضاعفت أسعار الغاز المنزلي بداية العام، بعد أن شهدت ارتفاعات متكررة في العامين السابقين، وسبق أن زادت 300% عام 2017.
وخلال مارس الحالي، وحسب تقارير محلية، واصلت أسعار الغاز الارتفاع، وانضم مستهلكوه إلى طوابير طويلة تشابه طوابير الخبز والوقود، بينما زاد سعر لتر البنزين إلى 28 جنيها، في خطوة تمهيدية لرفع الدعم عن مشتقات الطاقة، وفي هذا السياق سبق أن تفاوضت حكومة حمدوك مع قوى الحرية والتغيير على تأجيل رفع الدعم بموازنة 2020 التي أعلنت خطوطها العريضة خلال ديسمبر 2019، وبناء على ذلك تم إرجاء رفع أسعار الوقود، الأمر الذي تخلت عنه الحكومة عمليا بقرارتها رفع أسعار الوقود.
ضغوط الأزمة المالية
ليست مجمل المشكلات المتعلقة بارتفاع أسعار السلع منفصلة عن الأزمة المالية، وكما الأزمة النقدية هي نتاج لعوامل هيكلية ترتبط ببنية الاقتصاد السوداني، الذي لم يتم تطويره وما زال متخلفاً، محدود الإنتاج، وبيعت بعض قطاعاته الصناعية ضمن سياسات التحرير الاقتصادي التي طبقها السودان، كما يعتمد السودان على الاستيراد لتوفير معظم احتياجاته من السلع، ويتولى هذه المهمة في أغلبها القطاع الخاص، والذي يزيد الطلب على العملات الأجنبية، وفي ظل افتقار السودان إلى موارد كافية للنقد الأجنبي، وفي ظل تصدير رأسمال القطاع الخاص للخارج، يصبح توفير الدولة سيولة للاستيراد مشكلة متكررة، وقد شهد الاحتياطي النقدي منذ 2017 انهياراً، مما عمق عجز نظام البشير عن إدارة الأزمة المعيشية التي تفاقمت بشكل هائل منذ عام 2018.
ويشكل النظام المصرفي أحد عوامل الأزمة، بما يتضمنه من سوء الإدارة والعزلة المصرفية، وتحاول الحكومة بعد انتقال تبعية البنك المركزي إليها، إعادة رسم السياسات المالية، وهو ما ظهر فيما أصدرته من قرارات أخيرة، وتبقى العزلة المصرفية الناتجة من استمرار العقوبات الدولية مؤثرة في قدرة النظام المصرفي على توفير السيولة النقدية لتهدئة الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار أمام الجنية، ومع التسليم بأن الأزمة النقدية ترتبط بالأزمة الاقتصادية الهيكلية، إلا أن أزمة النظام المصرفي والعقوبات تعمق أزمة موارد النقد الأجنبي، في ظل ارتفاع الطلب ومحدودية المتاح من الحصيلة النقدية.
وهنا يمكن فهم الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار، والذي بلغ خلال يوليو 2019 سبعين جنيها في السوق السوداء، ووصل إلى 95 جنيهاً نهاية يناير، بينما تجاوز المائة جنيه بداية شهر مارس الجاري ثم إلى 120 جنيها.
وهذه الأزمة تستدعي إنهاء عزلة الجهاز المصرفي، وتنشيط موارد النقد الأجنبي، بما فيها تحويلات العاملين بالخارج، وإحكام السيطرة على هيئات الموانئ والجمارك وعمليات استخراج الذهب، وكل الإجراءات هذه ضرورة ملحة لتهدئة الأزمة الاقتصادية عبر الحصول على سيولة مالية.
تتعمق أزمة العاملين بأجر والعمالة غير المنتظمة مع ارتفاع معدلات التضخم، في ظل ثبات الأجور، وقد كان هذا التفاوت محل نقاش سابق على ثورة ديسمبر، إذ قدّم اتحاد المهنيين عريضة خلال ديسمبر 2018 تطالب برفع الأجور إلى ما يزيد عن ثمانية آلاف جنية، ودعا إلى التظاهر، إلا أن الحكومة الانتقالية رفعت مستوى الأجور في موازنة 2020 إلى ما يزيد عن 100%، ليرتفع الحد الأدنى للأجور من 425 جنيهاً إلى ألف جنيه، لكن هذا الحد لا يغطي مصروفات أسرة متوسطة على بند السلع الغذائية الأساسية وحسب، خاصة مع ارتفاع أسعار الوقود والخضراوات والدقيق والمكرونة والأرز والسكر والزيوت والألبان.
تبدو عملية تفكيك الأزمة المعيشية مهمة صعبة، وتقديرات وزير مالية الحكومة السودانية لم تكن موضوعية ولم تستند إلى أسس علمية وواقعية، كما غلفت الوعود بتفكيك الأزمة في ستة أشهر الآمال وكثيرا من الدعاية، وإن لم تسرع الحكومة السودانية بتوفير سيولة مالية كافية لاستيراد الخبز والوقود سوف تزداد الأزمة المعيشية بشكل أكبر، كما أنها ملزمة بضبط السوق ومواجهة شبكات الاستغلال التابعة لنظام البشير أو غيره من الفاعلين بالسوق، غير الإسراع بوضع خطة إنقاذ على المدى الطويل لها إمكانية في التحقق والنجاح، وعدم المراهنة كثيرا في الاعتماد على الحلول الخارجية.