الثورات ولعنة النفط العربي

18 مارس 2019
حقل نفطي في العراق (Getty)
+ الخط -
كثيراً ما يعتاد المواطن العربي ما يراه من تناقض بين ثروات النفط والتخلُّف الشديد إلى حدّ عدم التساؤل عن أسبابه، ولم يعد بإمكاننا تجاهل هذا النوع من النقاش، ومن قبيل المشاركة بالرأي في هذا الموضوع البالغ الأهمية، دعونا نتساءل: هل تكرار النزاعات في الدول العربية الغنية بالنفط ناتج عن تشخيص خطأ لمشكلة إدارة تلك الثروات الطبيعية؟

يقف أغلب المحللين عند تحليل ظاهرة لعنة الموارد، متناسين ما خفي من أسباب أخرى كالهيمنة الأجنبية على النفط العربي. فقد عانت معظم الدول العربية الغنية بالنفط والغاز من نزاعات حادّة، زعزعت استقرارها وأمنها ولا سيَّما العراق وليبيا ومؤخراً الجزائر.

 وأصل تلك النزاعات هو وفرة النفط الذي خلق العديد من الفرص لفساد النخب الحاكمة التي مكَّنت الأيادي الأجنبية من السيطرة على النفط العربي، بعدما كان ذلك شبه مستحيل في حقبة سابقة من الزمن.

وساهم الذهب الأسود في تأجيج جشع وطمع الحكام، ودفعهم إلى سلك مختلف الدروب للاستحواذ على الحكم وترسيخ الفساد، الذي يضمن بقاءهم في كراسيّهم لفترة أطول، ولا ننسَ الأطماع الخارجية التي تربَّصت بالنفط العربي، والتي منحت كذلك فرصاً للنخب الحاكمة للاستمرار في الحكم لم يتمكنوا من الحصول عليها فرادى.

وفي ساعة الغفلة، تمكَّنت الأيادي الأجنبية من عقد اتفاقيات مع الحكام العرب للحصول على النفط والغاز العربيين بالمجان لأجل غير مسمى، لذلك تقاعست أغلب الحكومات العربية الغنية بالنفط عن توفير العيش الكريم لمواطنيها، لأنّ نفطها وببساطة ليس ملكاً لها بالكامل وللدول الإمبريالية نصيب فيه أيضاً.

ﻨﺸﻭﺏ النزاعات ﻭتفجُّر الصراعات في تلك الدول، جاء نتيجة لوفرة النفط فيها وجشع حكامها وأطماع القوى الإمبريالية العظمى فيه، التي لها أيضاً مآرب أخرى في الدول العربية التي تمتاز بمواقع جيوستراتيجية بسبب قربها من إسرائيل كسورية، لبنان، الأردن ومصر.

النفط وراء سقوط أنظمة

هزّ زلزال التغيير العديد من الدول العربية كتونس، مصر، ليبيا وسورية وأطاح أنظمتها، ودائماً يكون النفط العربي إما مُسبِّباً أو مُموِّلاً لهذه الثورات، وها قد وصل الدور الآن إلى الجزائر التي تفاقم فيها الجشع والفساد بسبب النفط والغاز اللذين تمتلك فيهما فرنسا وإيطاليا وحتى أميركا نصيب من جرّاء اتفاقيات الاستغلال التي تمّ عقدها في الماضي.

فرغم انتهاء الاستعمار الفرنسي ظلَّت أطماع فرنسا قائمة وبلا حدود في النفط والغاز الجزائري، ويبقى الحل متأرجحاً بين الاحتجاجات الشعبية الواسعة والمصالح الغربية والحكومة الجزائرية، التي استنزفت كل الموارد المالية والتي كانت أيضاً على يقين بقدوم اليوم الذي يعي فيه الشعب مدى خطورة السياسات التي تمّ انتهاجها ويرفض استمرارها.

ولنا أيضاً في السعودية مثال حيّ على تسخير النفط لشراء الصمت الاجتماعي وتحقيق الكبت السياسي، وتغيير مسار الثورات التي اندلعت في العديد من الدول العربية وأهمّها اليمن، كما بلغ الإنفاق العام في السعودية مستويات غير معقولة، وكل ذلك في سبيل امتصاص أيّ غليان أو تذمُّر شعبي.

كما استعملت المملكة أيضاً مواردها النفطية في توجيه الثورة اليمنية نحو منطقة الصراع المزمن وتحويل اليمن إلى ساحة حرب مستباحة.

وإضافة للتدخُّل الخليجي في الحالتين السورية والليبية، ما زال الانقلاب العسكري في مصر لصيقاً بمليارات الريع النفطي الخليجي. فقد أدّت السعودية والإمارات بفضل مواردها النفطية وما يرافقها من فوائض مالية، دوراً لا يُستهان به في تحويل الثورات العربية إلى صراعات داخلية شرسة، ويتَّضح أنّ ذلك الدور كان مُصَمَّماً وفقاً لما تمليه القوى العظمى في العالم.

ما بين مدّ وجزر ألاعيب الغرب

بدأت أسعار نفط خام برنت بالتهاوي منذ يونيو 2014، وحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية من 111.795 دولاراً للبرميل وصولاً إلى 30.7 دولاراً في يناير 2016، ثم بدأ بالتحسُّن التدريجي لتبلغ 81.032 دولاراً في أكتوبر 2018 ثم عاودت الانخفاض إلى 64.748 دولاراً في نوفمبر 2018، 57.362 دولاراً في ديسمبر 2018، 59.41 دولاراً في يناير 2019، و63.96 دولاراً في فبراير 2019.

ومنذ وصول الرئيس الأميركي ترامب إلى البيت الأبيض وضع سعر النفط نصب عينيه وفعل كل ما بوسعه لإبقائه في أدنى المستويات وذلك من خلال تغريداته عبر "تويتر"، التي أصبحت الأسواق العالمية تحسب لها ألف حساب، وهو يستغلّ نفط السعودية ويأخذه بالمجّان تقريباً مقابل الأرباح المادّية والمعنوية الهائلة التي يجنيها من الضغط على إيران وفنزويلا.

ولحدّ الساعة لم نرَ أيّ مسؤول عربي يطالب أميركا والقوى الأوروبية بخفيض سعر سلعها الاستراتيجية المستوردة من الدول العربية، هل لأن مصالح القوى العظمى فوق كل شيء؟ وإلى متى سيستمرّ نفط العرب في خدمة تلك المصالح؟

هل النفط ثمين لدرجة إراقة الدماء؟

إذا أمعنّا النظر في سلع أخرى كقارورات العطور الأوروبية الصغيرة التي تباع بأغلى الأسعار، يتَّضح أنّ النفط العربي يمنح مجاناً للغرب الذي بدوره لا يفوِّت أيّ فرصة لشنّ الحروب وسفك دماء الأبرياء من أجل النفط، ويحرص كل الحرص على أن يظلّ سعر النفط بخساً.

للغرب مصادر لا تعدّ ولا تحصى لجلب الأموال، أما العرب ولقلة ابتكاراتهم ظلّ النفط مصدراً مهماً لمواردهم المالية، وبدلاً من أن تتكامل الدول العربية في ما بينها وتشكِّل اتحاداً لا يقهر وتتبادل في ما بينها النفط بأسعار زهيدة، فهي تقدِّم النفط للغرب على طبق من ذهب، نعم للغرب الذي يؤيِّد إسرائيل ويفعل ما بوسعه لإخضاع الدول العربية لسيطرته.
قيام ترامب بإجبار السعودية على ضخّ المزيد من النفط في الأسواق العالمية حتى يصل سعره لمستوى يرضي الشعب الأميركي واقع لا ينقصه الحقائق ولا الخيال، فواقعة الضغوط الترامبية على السعودية تضمَّنت تصويراً حياً للأحداث، يكاد ينطقها انطلاقاً من المواجهة مع إيران ووصولاً إلى حادثة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، وفي كل مرّة يتمّ ابتزاز السعودية للتنازل عن نفطها وملياراتها، وكأنّ الغرب يعمل جاهداً على تجريد الدول العربية من ثرواتها.

ولا يخفى على أحد أنّ ترامب يرى بأنّ الدول العربية لا تستحقّ هذه الثروات التي يجب عليها أن تدخل جيوب الغرب، ولن يدَّخر ترامب جهداً في شنّ الحروب مباشرة وغير مباشرة على الدول العربية، حتى لا ينضب سيل النفط العربي على شعبه الأميركي ويصل الحدّ إلى أن يدفع المواطن العربي حياته ثمناً لطمع الغرب في النفط العربي.

ببساطة، عقلية الغرب ومعادلته الاقتصادية تتلخَّص في خفض التكاليف وتعظيم الأرباح، ونحن نعلم تماماً أنّ النفط والغاز يدخلان تقريباً في كافة العمليات الإنتاجية التي تقوم بها الدول الغربية، والحصول عليهما بالمجان أو بثمن زهيد يحقِّق تلك المعادلة.
ويتمّ ذلك من خلال شنّ الحروب، سواء بطرق مباشرة (العراق) أو غير مباشرة (ليبيا والجزائر)، أو من خلال الضغط على دول كالسعودية لرفع إنتاجها من النفط، أو تسليم عوائدها النفطية لشراء معدات حربية وأسلحة أقل تطوراً استعداداً لحروب خطَّط لها الغرب أصلاً، وبالطبع الإمارات والبحرين تتبِّعان نفس الدرب الذي تسير عليه السعودية.

على الدول العربية كافة أن تتيقَّن بأنّ الغرب هو عدوّها المشترك اللَّدُود، ويجب عليها تجنُّب الأخطاء السابقة من خلال استحضار الأحداث التاريخية، لأنّه بمثابة لبنة صالحة لإعادة رسم مستقبل أفضل للأجيال الحالية والقادمة قبل أن تجفَّ الأقلام.
المساهمون