منذ شهور، وتحديداً في أغسطس/آب الماضي، راحت وسائل إعلام عربية وغربية تنشر بغزارة أخباراً وتقارير وتحليلات تؤكد أن الاقتصاد التركي قد انهار، وأنه على موعد مع حال انكماش حادة، وأن الليرة تهاوت وهبطت في بحر سحيق لا خروج منه، وأن تركيا تغرق في ظلمات الديون الخارجية والمحلية، وأن الحكومة مطالبة بسداد ديون فلكية خلال فترة وجيزة تتعدى قيمتها 179 مليار دولار، أي ما يعادل نحو ربع ناتج البلد الاقتصادي.
وأسهبت وسائل الاعلام العربية في نشر تقارير من نوعية: "الأتراك يصطفون أمام البنوك لشراء الدولار واليورو والتخلص من عملتهم المنهارة التي لا تساوي قيمتها قيمة الأوراق المطبوعة عليها"، و"الاستثمارات الأجنبية تنسحب بغزارة من البلاد لتفادي تكبد مزيد من الخسائر"، و"أسعار الأسهم انهارت في البورصة التركية ومعها خسر المستثمرون كل أموالهم"، و"بنوك الاستثمار العالمية تخلصت من أدوات الدين الحكومية التركية، سواء كانت أذون خزانة أو سندات".
بل إن وسائل الإعلام تلك راحت تنسج قصصاً خيالية من نوعية أن الأسواق التركية باتت خاوية على عروشها، وأن الأتراك يعانون من زيادات قياسية في الأسعار، خاصة السلع الرئيسية، وأن غالبية الأسر التركية باتت تشتري "هياكل" وأجنحة الدواجن بعد عجزها عن شراء اللحوم والدواجن، وأن الفواكه اختفت من الأسواق، وأن الفقر زاد بمعدلات كبيرة داخل المجتمع، وأن آلاف الشركات الأجنبية أغلقت أبوابها ورحلت بعد أن طردت العمالة.
ومع تكثيف نشر التقارير المزيفة أو المبالغ فيها عن الاقتصاد التركي تخيّل بعض المواطنين العرب المتأثرين بهذه "الآلة الإعلامية" أن ملايين التركيات سيتدفقن غداً على دول المنطقة العربية ويقمن بالهجرة من بلادهن بحثاً عن فرصة عمل أو حتى الستر والزواج، وأن ملايين الأتراك سيخرجون اليوم وليس غداً مطالبين بعزل أردوغان من منصبه، بل ومحاكمته بتهمة الفشل في إدارة الاقتصاد.
ومع غزارة الحديث عن انهيار الاقتصاد التركي تجاهلت وسائل الإعلام العربية والعالمية يومها الحديث تماماً عن الحرب الاقتصادية التي يشنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد هذا الاقتصاد، وفرض عقوبات اقتصادية أميركية على البلاد، وزيادة ترامب الرسوم الجمركية على صادرات الحديد التركية بنسبة 25%، ولم يتحدث أحد عن الحرب الاقتصادية المتواصلة التي تشنها بعض دول الخليج ضد الليرة التركية والمضاربة عليها، خاصة في أوقات الانتخابات، سواء الرئاسية والبرلمانية أو استفتاء تعديل الدستور.
الحكومة التركية أدركت خطورة الحملات الاقتصادية والمالية والإعلامية التي تشنها بعض الأطراف الخارجية ضدها، وأن هذه الحملات تحاول جر البلاد إلى الإنهيار وربما إلى ما هو أسوأ، وبالتالي عملت وبقوة على إجهاضها والحد من تأثيراتها السلبية خاصة على المواطن والاقتصاد، ونجحت خلال أشهر قليلة في زيادة إيرادات البلاد من النقد الأجنبي خاصة من قطاعات الصادرات والسياحة والاستثمارات الأجنبية والخدمات.
مثلا، صعدت الحكومة برقم صادرات البلاد الخارجية إلى 168.8 مليار دولار خلال الـ 12 شهراً الأخيرة، ليعد الارتفاع الأعلى في تاريخ البلاد، ورفعت رقم صادرات البلاد في شهر واحد هو نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 إلى 15.5 مليار دولار، وهو ما يعادل صادرات عدة عدة دول عربية لمدة عام كامل.
وفي الوقت الذي كانت فيه وسائل إعلام عربية تواصل حديثها عن انهيار الاقتصاد التركي كان سعر الليرة يتحسن بسبب السياسات التي طبقها البنك المركزي التركي وزيادة السيولة الدولارية، ليتراجع سعر الدولار من 7.3 ليرات في أغسطس/آب الماضي إلى 5.2 ليرات حاليا، وتفتتح البلاد المرحلة الأولى من مطار إسطنبول الجديد، أكبر مطار في العالم، والبالغة كلفته نحو 14 مليار دولار، وأن ترفع الحكومة عدد السياح القادمين إلى البلاد خلال الأشهر العشرة من العام الجاري بنسبة 22.43%.
كما تواصل الحكومة وبقوة تنفيذ عدد من المشروعات العملاقة منها إقامة محطة نووية، ومشروع لنقل الغاز الروسي لأوروبا عبر تركيا، وفتح قناة صناعية تصل بين البحر الأسود وبحر مرمرة تسمى قناة إسطنبول، وبناء 3 جزر صناعية على الأقل في بحر مرمرة، ومشروع نقل الغاز الطبيعي العابر للأناضول (تاناب) لنقل الغاز من أذربيجان إلى تركيا والذي يعد واحدا من أهم مشاريع الطاقة.
كما استقطبت البلاد استثمارات أجنبية مباشرة قيمتها 8.1 مليارات دولار في الفترة من يناير/كانون ثاني إلى سبتمبر/أيلول 2018، وزادت عملية استقطاب الأموال عقب اقرار قانون الجنسية التركية وتسهيل شروط الإقامة، حيث باتت الحكومة تمنح الجنسية التركية للأجنبي في حال شراء عقار أو أراضي بقيمة 250 ألف دولار، أو في حال ضخ 500 ألف دولار في مشروع استثماري.
ولأن المواطن هو الأصل في أي تنمية اقتصادية، فقد عملت الحكومة على مواجهة معدل التضخم المرتفع عبر تطبيق أدوات منها زيادة سعر الفائدة على الليرة، وخفض أسعار السلع وزيادة المعروض منها في الأسواق خاصة السلع الرئيسية والجماهيرية، كما تم زيادة الإنتاج للحد من الواردات، وبالتالي تخفيف الضغط على النقد الأجنبي.
أحدث خطوة قامت بها الحكومة في هذا الشأن كانت اليوم الثلاثاء حيث تقرر زيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 26%، ليصبح 2020 ليرة (381 دولاراً) شهرياً، كما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اليوم أيضا عن خفض أسعار الغاز الطبيعي 10% للمنازل والشركات في 2019 في محاولة لخفض العبء عن المواطن وتنشيط الاستثمار.
تركيا المنهارة اقتصادياً، حسب وصف الإعلام العربي، ترفع الأجور وتخفض أسعار الوقود وتجذب الاستثمارات الخارجية المباشرة، وتحسن من قيمة الليرة مقابل الدولار، وتفتح أسواقا جديدة لصادراتها، وتبحث عن فرص لشركات المقاولات المنتشرة في العديد من دول العالم.
وفي المقابل يحدث العكس داخل معظم دول المنطقة العربية، فلم نسمع مثلا عن رفع أجور الموظفين، بل إن هناك حكومات عربية عدة قامت في المقابل برفع أسعار السلع الرئيسية والوقود والكهرباء والمياه بشكل قياسي رغم تهاوي أسعار النفط، وتبحث معظم هذه الحكومات إجراء زيادات للأسعار في عام 2019، مع خفض الدعم، وتحرير بعض الأسعار ليتم بيعها بالأسعار العالمية، بل إن بعض الحكومات تبحث تقليص عدد الموظفين بالجهاز الإداري للدولة، خضوعاً لإملاءات صندوق النقد الدولي.
والسؤال هنا، هل يتعلم العرب من إدارة تركيا أزمتها الاقتصادية؟