فتحت سلطات القضاء العسكري في الجزائر، الباب من جديد على الثروات التي كوّنها جنرالات الجيش، والتي كانت من المحرمات التي يمنع الاقتراب منها، إذ أحالت خمسة من القادة العسكريين، على الحبس الاحتياطي على ذمة التحقيق في تهم وجهت إليهم حول الثراء غير المشروع والفساد المالي والعقاري واستغلال النفوذ، في سابقة داخل المؤسسة العسكرية.
وكان القادة العسكريون المتهمون تمّت إقالتهم قبل شهور من حبسهم، وسط اتهامات عديدة حول نفوذهم المالي وقيامهم بعمليات مشبوهة.
وقرر قاضي التحقيق العسكري بمحكمة البليدة (60 كيلومتراً جنوبي العاصمة الجزائرية)، منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الحبس الاحتياطي للجنرالات الخمسة على ذمة التحقيقات، حتى إحالتهم إلى المحاكمة في التهم المنسوبة إليهم، بتحقيق ثراء غير مشروع، واستغلال وظائف سامية والنفوذ لمصالح شخصية.
وشملت قائمة المتهمين كلا من القائد السابق للمنطقة العسكرية الرابعة اللواء عبد الرزاق الشريف، وقائد قسم المصالح المالية لوزارة الدفاع اللواء بوجمعة بودواور، والقائد السابق للمنطقة العسكرية الثانية اللواء سعيد باي، وقائد المنطقة العسكرية الأولى حبيب شنتوف، وكذلك القائد السابق لجهاز الدرك الوطني (يتبع لوزارة الدفاع) مناد نوبة.
ومعروف عن كبار ضباط الجيش الجزائري امتلاكهم لثروات كبيرة، جمعوها أثناء تأديتهم لمهامهم داخل المؤسسة العسكرية، ويفضل هؤلاء الضباط عدم التدخل مباشرة في تسيير ممتلكاتهم مباشرة، بل تكليف أبنائهم وأصهارهم بتسييرها، للالتفاف على القانون الذي يمنع الإطارات المدنية والعسكرية من تأدية وظيفتين في نفس الوقت، لتفادي استعمال النفوذ وتضارب المصالح حسب مصادر مطّلعة لـ"العربي الجديد".
كما هو حال اللواء خالد نزار وزير الدفاع سابقا، والذي يحتكر ابنه "لطفي" خدمة تزويد الشركات والإدارات بخدمة الإنترنت فائقة التدفق عن طريق شركة " SLC" المقدر رأس مالها بـ 10 ملايين يورو، كما يملك الوزير الأسبق للدفاع عدة شركات عقارية في الجزائر، تسيرها ابنته "ن.نزار".
وتعد سوق العقارات من الأسواق الخصبة لـ"بزنس عسكر الجزائر"، حيث كشفت التحقيقات الأخيرة مع الجنرالات الخمسة امتلاكهم لثروات عقارية كبيرة، وشركات عقارية برؤوس أموال ضخمة، تقوم بشراء الأراضي في أحياء راقية في الجزائر العاصمة وتشيد عليها عمارات بشقق فاخرة، وتعرض للبيع بأسعار لا تقل عن 300 ألف دولار للشقة.
كما هو حال العقيد عز الدين، ملحق دائرة الاستعلام والأمن (المخابرات) بشركة سوناطراك سابقا، الذي أكدت المصادر، التي رفضت الإفصاح عن نفسها، أنه استلم حديثا وثائق الإقامة بفرنسا، ويقود حاليا، مشروعا استثماريا في العقار.
وهناك مثال آخر على فساد العسكر هو العقيد سفيان، ملحق المخابرات بميناء الجزائر سابقا، الذي استقر في لندن حيث يملك شققا، وفتح حسابات بنكية في بلدان بأوروبا الشرقية، هو الأخير فضل الاستثمار في العقار، بالإضافة إلى تأسيس شركة خدمات صغيرة.
أما نموذج الجنرال أحمد، أغنى المنتسبين السابقين لدائرة الاستعلام والأمن (المخابرات) فيملك العديد من العقارات في برشلونة ومدريد، زيادة على استثمارات عقارية بباريس، حسب المصادر.
واللافت في ضباط المخابرات أنهم ينشطون بأسماء مستعارة ترتبط بهم إلى ما بعد خروجهم من المؤسسة العسكرية، وتصعب معرفة أسمائهم الحقيقية والثروة التي يمتلكونها.
كما يفضل بعض كبار ضباط الجيش الجزائري المزاولين لمهامهم أو المتقاعدين في مجال الاستيراد، حيث ارتبطت لطيلة سنوات عديدة أسماء بعض منهم بالمواد المستوردة، كـ"جنرال الحليب" و"جنرال الحديد" و"جنرال السكر"، حسب تقارير إعلامية، وذلك لاحتكارهم استيراد هذه المواد واسعة الاستهلاك، عن طريق شركات استيراد يسيرها أبناؤهم، تحظى بامتيازات إدارية ومالية كبيرة، كما يسيرون موانئ جافة يتم إيجارها لشركات الاستيراد المعتمدة في الجزائر لوضع الحاويات لأيام وأشهر عديدة.
ولعل أبرز الضباط الناشطين في مجال الاستيراد هو الجنرال المتقاعد لحبيب بوعلي، الذي يسير ابنه كمال شركة "أل إم أن إنبور-إكسبور"، كبرى شركات الاستيراد في الجزائر، والتي تملك عدة مكاتب في دول شرق آسيا وجنوب أوروبا حسب ما علمته "العربي الجديد" من مصادرها.
وفي 9 سبتمبر/ أيلول الماضي، أبلغ القضاء العسكري الضباط الخمسة المتهمين أنهم محل شبهات بالثراء غير المشروع وارتكاب تجاوزات باستغلال الوظيفة السامية، وفي يوم 16 من نفس الشهر، قرر القاضي العسكري منع سفر الضباط الخمسة إلى حين إنهاء التحقيقات. وكان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة قد أقال هؤلاء الجنرالات من مناصبهم بصفته وزير الدفاع قبل أشهر.
وتحتل الجزائر المراتب الأولى في تصنيف الدول الأكثر فسادا، حسب منظمة الشفافية الدولية، إذ جاءت في المركز 112 في التقرير الصادر عن المنظمة لسنة 2017 من أصل 180 دولة.
ومع انطلاق حملة تصفية كبار جنرالات الجيش الجزائري، وفي ظل كثرة الأمثلة حول "الثراء السريع" للكثير من كبار عسكر الجزائر، بدأت التساؤلات تطرح، هل تعيش الجزائر منعرجا يكون بداية نهاية مرحلة "اللا عقاب" التي جعلت المؤسسة العسكرية محصنة من يد العدالة، أم هي مجرد تصفية "قضائية" بحسابات سياسية.
وفي هذا السياق، شكك رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية والنائب البرلماني محسن بلعباس، في الرواية الرسمية المروجة لـ عملية مكافحة فساد داخل المؤسسة العسكرية، حيث قال لـ"العربي الجديد" إن "حملة الإقالات التي شهدتها المؤسسة العسكرية تندرج ضمن مساعي تمهيد الطريق أمام الرئيس بوتفليقة لخلافة نفسه لعهدة رئاسية خامسة".
وأضاف بلعباس أن" الرئيس يريد توجيه رسالة مزدوجة من خلال إقالة ومحاكمة الجنرالات، أولاً باتجاه القادة العسكريين أنفسهم لصدّ أي محاولات للخروج عن الصف، مثلما جرى عام 2004 (بعض الجنرالات دعموا خصم بوتفليقة) في حين يوجه الرسالة الثانية ومفادها أن الرئيس بوتفليقة هو من يقود الجزائر فعلا ويحارب الفساد فعلا".
وفي الوقت الذي تواجه في الجزائر أزمات اقتصادية ومالية تعاني البلاد من تفاقم عمليات الفساد وإهدار المال العام خلال السنوات الأخيرة.
وحسب رئيس الجمعية الجزائرية لمكافحة الفساد (مستقلة)، جيلالي حجاج، في تصريحات سابقة لـ"العربي الجديد"، فإن "حجم العمولات المشبوهة التي تم دفعها في مختلف الصفقات يقدر بـ60 مليار دولار، تورط فيها مقربون من الرئيس بوتفليقة ومن النظام السياسي بصفة عامة بمستويات مختلفة".