أقرّ مجلس النواب الليلة مشروع قانون رفع سقف الدين العام، الذي من المتوقع أن يصوت عليه مجلس الشيوخ قبل يوم الاثنين القادم، في خطوة استطاعت من خلالها الدولة الأميركية العميقة النأي بالولايات المتحدة عن فخ الإفلاس، ولو مؤقتاً.
وبذلك تجاوزت واشنطن كابوس حالة دنت خلالها من مرحلة إفلاس كانت تهددها لأول مرة في تاريخها، فيما كانت الخشية تتفاقم من أن عُمق الانقسام والنفور بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس، قد يقود إلى تغليب التطرف ونسف المشروع في مجلس النواب المسيطر عليه الجمهوريون.
لكن تهيّب التداعيات غير المسبوقة التي كانت الأزمة المالية عام 2008 ستبدو باهتة مقارنة بها، رجّح كفة تغليب التوافق لدى الجناح التقليدي من الجمهوريين، الذي نجح الرئيس جو بايدن في نسجه مع رئيس مجلس النواب، كافين مكارثي.
بيد أن تجاوز الأزمة بقي في حدود ترحيلها لغاية سنتين من دون التصدي لجذورها المستعصية الكامنة في التنافر، بل التناحر بين مقاربتين لوظيفة الدولة في النظام الأميركي: دولة الرعاية والتنظيمات الضابطة لاقتصاد السوق على الطريقة الأوروبية، مقابل دولة تقلّص دورها في هذين المجالين. أول مقاربة يدفع نحوها الديمقراطيون عموماً، بينما كان الجمهوريون يحرسون الثانية باستمرار.
وتعكس موازنة الحكومة الفيدرالية هاتين المقاربتين وفق موازين القوى في الكونغرس وعلاقة البيت الأبيض به. وفي الزمن الديمقراطي يكون الميزان عادة لصالح دولة الرعاية والإنفاق المتزايد على التقديمات الاجتماعية العامة. أما في الزمن الجمهوري، فتكون الأرجحية لخفض الضرائب، خصوصاً على الشركات وحركة رأس المال والاستثمارات وكبار المتمولين.
والمشترك بين الطرفين على هذا الصعيد، أن كليهما يحرص على تخصيص موازنة فلكية للبنتاغون بلغت 857 مليار دولار عام 2022، التي لا يقترب من خفضها أحد ما خلال القليل من التلميح. ومع أن هناك قناعة بأنها أصبحت "متورّمة" أكثر من اللازم، لطالما نُظر إليها منذ الحرب الباردة، على أنها اكتسبت مناعة ضد مسّها. بل إن هناك مزايدات لتعزيزها من خلال التذرع بـ"خطورة" الأوضاع الدولية الراهنة.
وبين هذا وذاك، تراكم العجز، خصوصاً في الـ22 سنة الماضية، وبالتالي تراكمت الديون وبلغت حدودها الفلكية الراهنة عند 31.4 تريليون دولار.
ويرى الجمهوري العلّة في الإنفاق الحكومي المتزايد الذي يدافع عنه الديمقراطي بذريعة أن العجز، واستطراداً الديون، مرتبط بقلة إيرادات الخزينة المتأتية من خفض الضرائب على الأرباح الطائلة للشركات الكبيرة والمستثمرين وأصحاب الإيرادات العالية، التي يقاتل من أجلها الجمهوريون. وهنا يكمن المأزق المالي والعجز عن حلّه في خطين لا يلتقيان إلا من خلال تدوير الزوايا، ليبقى مهيمناً على المشهد شدّ حبال سياسية وانتخابية، وهذا ما انتهى إليه بالضبط التصويت الأخير.
تجدر الإشارة إلى أن رفع سقف الدين العام ليس مسألة طارئة. فقد تكررت حوالى 60 مرة من أجل تمكين الحكومات المتعاقبة من سداد الديون والالتزامات المالية، كلما نضبت سيولة الإيرادات قبل نهاية السنة المالية وموازنتها، علماً أنه في السابق كانت الفجوة محدودة نسبياً.
وفي العقود الأخيرة، كبر العجز ومعه تضخم جبل الديون، وترتب على الدولة بموافقة الكونغرس وتوقيع الرئيس، سدادها باعتباره مسألة "غير قابلة للنقاش "، بحسب النص الدستوري الصريح.
وبذلك، كان الرئيس بايدن في موقف قوة عندما طلب رفع السقف من غير أن يكون ملزماً بالتفاوض حول الموازنة ونفقاتها، فهذه مسألة منفصلة، لكنه تراجع ووافق على التفاوض مع رئيس مجلس النواب لعلمه ربما بأن هذا الأخير لا يقوى على تحمّل تبعات مخالفة دستورية بهذا الوضوح بعواقب وخسائر فادحة وفاضحة.
ولذلك، خرج الرئيس الرابح الأول بوقوف 165 من النواب الديمقراطيين، مقارنة برئيس المجلس الذي لم يبق معه سوى 149 نائباً جمهورياً فقط من أصل 222. وفي نهاية المطاف، كانت الخسارة من نصيب صقور الجمهوريين، ومعهم الرئيس السابق دونالد ترامب، الذين دفعوا باتجاه خيار الإفلاس بزعم أنه أفضل من الديون.
وكانت الغاية سياسية لإغراق حملة بايدن الانتخابية بتداعيات أزمة محلية وعالمية تقضي على محاولة تجديد رئاسته. لكن البيت الأبيض رد بتكتيك سياسي خرج منه بربح مزدوج، حيث نجح في تمرير المشروع في مجلس غالبيته بيد الجمهوريين، وفي ذات الوقت عمّق الخلافات والانقسامات في صفوفهم.
في المحصلة، كسب الرئيس بايدن الجولة رغم تذمر الجناح "اليساري" في حزبه الديمقراطي من منطلق أنه أعطى الجمهوريين بعض التنازلات في بنود الإنفاق في الموازنة، لكنه مرّر تسوية بدا معها كمن جنّب أميركا والعالم كارثة كبرى لا يعلم أحد إلامَ ستؤول تداعياتها.
كذلك جمّد مشكلة سقف الدين لما بعد انتخابات الرئاسة المقبلة، بما يحرره من الانشغال بها خلال حملته الانتخابية. بيد أن مشكلة الديون ستبقى قائمة من دون القدرة على حلها والتخلص من كابوسها نهائياً.