سيظلّ تاريخ 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 محفوراً في ذهن دونالد ترامب الذي لا يزال حبيس دوغمائيته المشكِّكة في شرعية الانتخابات التي تمخَّضت عن فوز جو بايدن الذي أصبح الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، فحتى القنوات التلفزيونية الأميركية قطعت بثاً لترامب الذي أصيب بعسر هضم نتائج الانتخابات، وحاول التلفُّظ بحموضة خسارته على مسمع ومرأى العالم. كما فعلت منصات التواصل الاجتماعي ما بوسعها للتصدِّي للتغريدات المضلَّلة التي ينشرها ترامب محاولاً قدر الإمكان أن يتحايل ذهنياً على الناخبين بغية الاستيلاء على أصواتهم تحت عباءة السياسي ذي الدهاء والحنكة.
ومع صعود نجم بايدن في سماء الرئاسة الأميركية قام العديد من المحلِّلين بتشريح خطّته واستقراء ما بين سطور برنامجه، ولكن يستعصي عليهم الإمساك بالحقيقة في ثنايا نواياه وأهداف حلفائه ومآرب داعميه، لا سيَّما تجاه المنطقة العربية التي تمتدّ من المحيط إلى الخليج.
مشوار بايدن في البيت الأبيض ليس طريقاً مفروشاً بالورود، بل بالمتاعب والصعاب بسبب تشابك العديد من القضايا الحسّاسة التي تتطلَّب تحرُّكاً عاجلاً كضرورة إصلاح الخراب الاقتصادي الذي تسبَّبت به جائحة كورونا، وإنعاش الاقتصاد الأميركي وإعادة بعث الأمل الذي سلبه ترامب من الفئات المستضعفة والهشّة اقتصادياً بالاعتماد على رفع المساهمة الضريبية للأثرياء والشركات الكبرى، وتعزيز الرعاية الصحية من خلال إحياء مشروع "أوباما كير" وإرجاعه إلى الواجهة، ووقف الظلم العنصري، وتقويم السياسات الأميركية إزاء إيران، الصين، روسيا، سورية، العراق، فلسطين والدول الخليجية، لا سيَّما السعودية، وهندسة سياسات جديدة خاصّة بملف الهجرة بدلاً من السياسات الترامبية النرجسية والعنصرية في التعامل مع المهاجرين وطالبي اللجوء للولايات المتحدة، والعودة إلى منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ، وتعزيز دور منظمة التجارة العالمية ووضع حدٍّ للنزعة الترامبية الحمائية واتِّخاذ نهج أكثر ليبرالية في التجارة الدولية.
سيتسلَّم بايدن ميراثاً رئاسياً محفوفاً بالتحدِّيات الصعبة والمسؤوليات الثقيلة يوم 20 يناير/ كانون الثاني 2020، حيث يتعيَّن عليه انتشال الاقتصاد الأميركي من خندق كوفيد-19، وإيجاد حلٍّ عملي لمعضلة فقدان حوالي 10.1 ملايين وظيفة منذ شهر فبراير/ شباط الماضي، والتي كانت ملاذاً للفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع الأميركي، وتقديم إعانات للعاطلين عن العمل، لا سيَّما بعد توقُّف الإعانات التي كانت تُمنح لهم والمُقدَّرة بـ 600 دولار قبل أشهر، والحصول على المزيد من الموارد المالية للتخفيف من الآثار الاقتصادية للجائحة، علاوة على الحزمة المالية الإجمالية للإنقاذ التي وافق الكونغرس على تمريرها هذه السنة والبالغة 3 تريليونات دولار (تتضمَّن مبلغاً يُقدَّر بـ 2.2 تريليون دولار وافق عليه مجلس النواب الأميركي وعرضاً تحفيزياً بمبلغ 1.8 تريليون دولار قدَّمه البيت الأبيض كمغازلة من ترامب لناخبيه)، لا سيَّما وأنّ حظوظ بايدن في إصلاح ما أفسدته الجائحة أصبحت مرتفعة، بعد إعلان شركة "فايزر" للأدوية عن التوصل إلى لقاح ضدّ فيروس كورونا وبنسبة نجاح عالية.
يعلم بايدن في قرارة نفسه أنّ مشوار التحسُّن سيكون طويلاً، نظراً لخبرته كنائب لباراك أوباما الذي شغل منصبه كرئيس للولايات المتحدة يوم 20 يناير/ كانون الثاني 2009، أي في الوقت الذي كانت فيه البلاد غارقة في ركود كبير وبالتفشِّي الصارخ للبطالة وفقدان مئات الآلاف من الأميركيين لمنازلهم كل شهر، حيث وقَّع أوباما في فبراير/شباط 2009 على أكبر حزمة تحفيز في تاريخ أميركا آنذاك تُقدَّر بـ831 مليار دولار، ولكن الأمر استغرق أكثر من ست سنوات حتى ينخفض معدل البطالة إلى 5 بالمائة، ويعود بذلك إلى المستوى الذي كان عليه قبل بداية ذلك الركود.
وجدير بالذكر أنّ الفريق الاقتصادي لأوباما توقَّع، بمجرَّد الموافقة على تلك الخطة التحفيزية، تحقيق معدل نمو يتجاوز 4 بالمائة سنوياً من عام 2011 حتى عام 2013، ولكن الواقع كان له صورة حقيقية سوداء أخرى أفادت بتسجيل معدل نمو لا يتعدَّى 2 بالمائة من 2009 إلى 2012، وتحديداً بعد مرور سنتين من إطلاق تلك الحزمة التحفيزية، وكان معدل البطالة خلال تلك الفترة لا يزال قابعاً عند 9 بالمائة.
يواجه بايدن مهمة شبيهة بتلك التي تتناولها سلسلة أفلام المهمة المستحيلة، ولكي يحقِّق نظرته التفاؤلية يتعيَّن عليه رسم خطة سحرية وسريعة المفعول لتحسين معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الذي يُقدَّر حالياً حسب بيانات صندوق النقد الدولي بـ -4.3 بالمائة.
عربيا تنتظر المنطقة من بايدن الكثير، فكما تابعت المنطقة العربية أيضاً عن كثب التطوُّرات المتعلقة بنتائج الانتخابات الأميركية التي ستدفع بعض الدول لإعادة حساباتها سياسياً واقتصادياً، فهناك دول قد تتعرَّض لملاحقات قضائية ولممارسات ليّ الذراع كالسعودية، ودول أخرى ستجد أنّها أضاعت الكثير من المال والجهد في سبيل انضمامها لموكب التطبيع مع الكيان الصهيوني كالإمارات والسودان، وعواصم تخشى عودة الإدارة الأميركية إلى الاتفاق النووي مع إيران كالرياض وأبوظبي والمنامة، ودول تنتظر قرارات قد تُخمد نيران الحرب فيها كسورية واليمن وليبيا، ودول تتحاشى الانجرار إلى التقسيم واللامركزية كالعراق، ودول في أمسِّ الحاجة إلى وضع حدٍّ للتغوُّل الإسرائيلي كفلسطين، ودول تترقَّب تدخُّلاً أميركياً جاداً لإنهاء الحصار عليها كقطر، ودول تتطلَّع لتلقِّي الضوء الأخضر من بايدن للحصول على المزيد من المساعدات المالية والقروض من المؤسسات المالية الدولية مثل لبنان، الأردن ومصر وتونس، علماً أنّ صندوق النقد الدولي قد قام وحده بإقراض أكثر من 10 مليارات دولار أو نحو ذلك لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هذا العام فقط.
خلاصة القول إنّه ينبغي على بايدن، الذي يؤكِّد انفراج الوضع الاقتصادي وتحسين المستوى المعيشي للأميركيين، أن يفكِّر خارج الصندوق، وأن يتجنَّب كل العثرات التي تسبَّبت بتأخُّر انتعاش الاقتصاد الأميركي خلال الفترة الرئاسية لأوباما التي تلت مباشرة الأزمة المالية التي هزَّت الاقتصاد العالمي في عام 2008، كما يتوجَّب عليه المساهمة في ترسيخ قيَم الديمقراطية والسلام وحقوق الإنسان، التي يتغنَّى بها، في العالم العربي الممزَّق بالصراعات والنزاعات والأزمات، والوقت كفيل بكشف ما إذا كان بايدن سيُعيد عقارب الساعة إلى الوراء أربع سنوات، ويستأنف العمل من حيث توقّف أوباما ليشفي علل الدول التي تعاني تحت جزمة الإمبريالية الأميركية.