هل العالم مستعد لمواجهة حرب إقليمية تبدأ من لبنان؟

12 يوليو 2024
من القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان/ 11 يوليو 2024 (كوانات حاج/ فرانس برس)
+ الخط -

الكل يحذّر من احتمالية اتساع العدوان الإسرائيلي على غزة إلى لبنان ونشوب حرب إقليمية تترك آثاراً مدمرة على المنطقة واقتصاداتها وتنتقل إلى الأسواق العالمية. فلم تنجح أي وساطة وحراك دبلوماسي حتى هذه اللحظة في التوصل إلى صيغة أو اتفاق بين حزب الله وإسرائيل يذب عن المنطقة مخاطر الحرب، في المقابل، أقرّ جيش الاحتلال الإسرائيلي خططاً عملياتية لشنّ هجوم في لبنان، وهو ما أرعب الدول وقسمها بين حليف للبنان ومندد بإسرائيل وآخر متضامن مع إسرائيل.

فقد أعرب منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة مارتن غريفيث عن قلقه من احتمال اتساع رقعة الحرب الإسرائيلية إلى لبنان، وحذّر من أن ذلك يمكن أن يكون "مروّعاً"، وانتقد سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، التوجه الإسرائيلي نحو توسيع العملية العسكرية لتشمل لبنان. وتضامن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع لبنان داعياً دول المنطقة إلى دعم بيروت، محذّراً من أن توسيع نطاق الحرب في المنطقة سيؤدي إلى كارثة كبيرة. وأكد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي أن خطر توسع الصراع الإقليمي يتفاقم يوماً بعد يوم. كما نبّهت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك من خطورة الوضع وأن سيناريو الحرب الشاملة يبقى قائماً.

اقتصاد لبنان منهار أصلاً

هل هناك حاجة لإثبات أن حرباً في لبنان ستؤدي إلى نتائج كارثية على اقتصاده يا ترى. لبنان لا تنقصه حرب أصلاً ليكون وضعه الاقتصادي كارثياً. فمن ينظر في حال هذا البلد سيجده يعاني أزمات سياسية واقتصادية حادة تسببت بإفلاسه وعجزه عن سداد مستحقات ديونه. منذ العام 2020، شهد النظام المالي اللبناني تراجعاً حاداً فرضت على أثره البنوك قيوداً صارمة على عمليات السحب والتحويل حرمت المودعين من الوصول إلى مدخراتهم وحساباتهم المالية، إثر تخلّف الحكومة اللبنانية عن سداد سندات دولية بقيمة 1.2 مليار دولار في مارس/آذار من ذلك العام.

بلغ الدين العام اللبناني في العام 2023 أكثر من 100 مليار دولار وسط مساعي الحكومة والوكالات الدولية إلى إعادة هيكلة هذه الديون، التي تشمل التزامات محلية ودولية وتشكل أكثر من 179% من ناتجه المحلي الإجمالي، ما جعل تصنيف لبنان بين الدول ذات المخاطر الائتمانية العالية. ,ليس هذا وحسب، فقد صنّف البنك الدولي الانخفاض الذي حصل في الناتج المحلي الإجمالي في لبنان بنحو 20.5 مليار دولار في العام 2021 هبوطاً من 55 مليار دولار في 2018 بأنه أحد أنواع الانكماشات التي تحصل في الحروب، وصنفه بين الأسوأ من نوعه على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. هذا من دون حرب، فكيف إذا دخلت البلاد في حرب مع إسرائيل.

وشهدت الليرة اللبنانية تراجعاً في قيمتها أمام الدولار حيث فقدت أكثر من 99% من قيمتها منذ بداية الأزمة المالية قبل نحو أربع سنوات، الأمر الذي زاد من تكلفة كل شيء تقريباً في بلد يعتمد على الواردات بشكل كبير، ودمّر القوة الشرائية للمواطنين، وبحسب أرقام البنك الدولي المحدثة للأمن الغذائي، سجل لبنان أعلى نسبة تضخم اسمية في أسعار الغذاء حول العالم بلغت 350% للفترة الممتدة بين إبريل/ نيسان 2022 وإبريل 2023، وأصبح لبنان ضمن لائحة البلدان ذات نقاط الجوع الساخنة في العام 2023، والتي قد تواجه تدهوراً شديداً في مستوى انعدام الأمن الغذائي. وكشفت لجنة الأمم المتحدة (إسكوا) أن معدلات الفقر ارتفعت بين السكان البالغ عددهم 6.5 ملايين شخص، مع تصنيف حوالي 80% منهم فقراء. وباتت الهجرة خياراً مفضلاً لدى العائلات اللبنانية في أكبر موجة نزوح منذ الحرب الأهلية 1975، حيث أشار استطلاع رأي في العام 2021 إلى أن 63% من المستطلعة آراؤهم أبدوا رغبتهم بالمغادرة بشكل دائم مقابل 26% قبل الأزمة التي اجتاحت البلاد في العام 2019. فإذا كان هذا الوضع قبل اندلاع الحرب، فكيف سيكون البلد في حال أي تصعيد عسكري؟ سيُضاف إلى كل ما سبق انهيار في البنية التحتية والخدمات العامة وشلل اقتصادي تام، وستجعل الحرب لبنان مسرحاً للفوضى الاقتصادية والاجتماعية.

تأثيرات الحرب المحتملة على الأسواق العالمية

تنطوي الحرب المحتملة بين إسرائيل وحزب الله على خطر تحولها إلى نزاع إقليمي شامل، إذ يعد حزب الله جزءاً رئيسياً من منظومة وكلاء إيران في المنطقة. وبالتالي، فإن أي تدخل ضد حزب الله سيستدعي تدخل إيران ووكلائها في كل من سورية والعراق واليمن ضد إسرائيل وضرب مصالح أميركا في المنطقة، ما سيؤدي إلى نتائج كارثية على الاقتصاد العالمي.
حتى لو لم يكن لبنان بلداً منتجاً للنفط، فإن إيران والعراق يقعان في قمة الدول المنتجة والمصدرة للنفط، إضافة إلى أن إيران وشركاءها الإقليميين يقعون بالقرب من أهم مسارات النقل والتجارة في العالم، خصوصاً مضيق باب المندب وخليج هرمز، ما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط عالمياً إثر تهافت المستثمرين على شراء عقود النفط بشكل كثيف خشية انقطاع الإمدادات والقلق من ارتفاع الأسعار في المستقبل، وقد يشهد سعر البرميل قفزات ليصل إلى 120 أو 150 دولاراً للبرميل على المدى المتوسط، بحسب اتساع نطاق الحرب وضراوتها. وسيزيد هذا الارتفاع من تكاليف الإنتاج في جميع أنحاء العالم، ما سيرفع أسعار السلع والخدمات ويزيد من موجات التضخم في الاقتصادات العالمية.

عانى العالم مؤخراً من موجات تضخم كبيرة بعد اتخاذ إجراءات مالية ونقدية لتحفيز الاقتصاد المتضرر من جائحة كورونا نهاية العام 2019. إثر ذلك، اتبعت العديد من الحكومات برامج تقشف ورفعت أسعار الفائدة لإعادة التضخم إلى حدوده الطبيعية وإدخال الاقتصاد في دورة ركود. ومع بداية التعافي وانخفاض الأسعار، بدأت البنوك المركزية في خفض معدلات الفائدة، إلا أن نشوب حرب جديدة قد يعيد زخم التضخم إلى الواجهة ويجبر العالم على العودة إلى سياسات التقشف مرة أخرى، وهو ما قد يزيد من حنق وسخط الشعوب على حكوماتها.
 

ومع تصاعد التوترات الجيوسياسية، عادةً ما يلجأ المستثمرون إلى الذهب ملاذاً آمناً لحماية ثرواتهم من ضياع القيمة والتقلبات الحادة في الأسواق، في الواقع، لم يقتصر هذا السلوك على المستثمرين الأفراد، إذ اتجهت الحكومات والبنوك المركزية والاستثمارية للتحوّط بالذهب خلال الفترة الماضية، وهو ما ساهم في ارتفاع أونصة الذهب إلى حدود 2400 دولار. ومع توسع الحرب من غزة إلى لبنان وأخذها طابع حرب إقليمية، قد ترتفع الأونصة إلى 3000 دولار. بطبيعة الحال، فإن الحرب في منطقة الشرق الأوسط ستؤدي إلى تحولات في حركة الملاحة والتجارة الدولية، خصوصاً عبر قناة السويس وباب المندب، المسؤولين عن نسبة كبيرة من التجارة العالمية. وأي تهديد لتلك الممرات سيؤدي إلى تحويل مسارات الشحن وزيادة تكاليف النقل وارتفاع أسعار بوليصات التأمين وأسعار السلع بالمحصلة.

وستؤدي الحرب الإقليمية إلى أزمة إنسانية كبيرة مع نزوح عشرات الآلاف من السكان في لبنان وغيره إلى دول الجوار وأوروبا بحثاً عن مكان آمن. وقد سبق أن انشغل العالم بموجات لجوء السوريين التي عُقدت لأجلها عشرات المؤتمرات والندوات وأبرمت اتفاقيات وخصصت عشرات المليارات لإيقافها. لذا، فأي موجة لجوء ثانية ستلقي بظلالها على البلدان المستقبلة اللاجئين والعالم بأسره، مع زيادة فاتورة المساعدات الإنسانية التي تتبرع بها الدول والمؤسسات المانحة. ,لن يؤثر اتساع رقعة الحرب على لبنان واقتصاده المحلي وحسب، بل سيحمل تداعيات هائلة على الاقتصاد العالمي، وهو ما يدعوني إلى الاعتقاد أن العالم غير مستعد لتحمل هذه التكلفة وسيمنع انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية شاملة، ليس حباً بالشعوب وعطفاً عليها، ولا كرهاً بإسرائيل أو حقداً عليها، بل من أجل تجنيب العالم كارثة اقتصادية لا أحد يعرف نتائجها على أقل تقدير.

المساهمون