عرف المصريون، الأسبوع الماضي، نظرية يمكن أن نطلق عليها "نظرية افتكاسات وهري ومزاعم وأكاذيب يوسف"، والقائمة على محاولة متعمدة لخداع الملايين منهم، والتسبب في فقدانهم جزءاً من مدخراتهم وإغراقهم في مزيد من الخسائر المالية وغلاء الأسعار وضعف القدرة الشرائية، وتعميق حالة الركود والكساد والغلاء التي تمر بها الأسواق، وحدوث مزيد من الاضطراب لسوق الصرف الأجنبي الذي يعاني بشدة من أزمة عملة، ونقص شديد في إيرادات النقد الأجنبي.
في المقابل ومنذ آلاف السنين عرف المصريون نظرية أخرى قائمة على الصدق والطهارة وعدم التدليس والبعد عن الخداع، والتخطيط المحكم لشؤون الدولة، وتطبيق فن التسويق والإدارة الحديثة، والاستخدام الكفْء للموارد المتاحة، ومحاولة إنقاذ الناس من مخاطر الجوع والقحط والعطش، والحفاظ على هيبة الدولة وقوتها أمام أعدائها الخارجيين.
نظرية يوسف الحسيني قائمة على التدليس وخداع الناس وتسببت في حدوث خسائر لأصحاب المدخرات واضطراب في سوق الصرف
بل وحماية الأمن القومي للدولة المصرية من مخاطر كبيرة كان من الممكن أن تهدد وجودها، وقبل كل ذلك تحقيق رخاء اقتصادي دام لسنوات طويلة، ولم يسبق له مثيل في تاريخ مصر القديم، خاصة عصر الدولة الوسطى.
النظرية الأولى قادها المذيع والنائب بالبرلمان المصري يوسف الحسيني الذي راح يحذر المصريين من اكتناز الدولار دون أن يقدم لهم أسباباً منطقية واقتصادية لتلك الدعوة التي ثبت فيما بعد أنها مضللة وربما موجهة، بل ويطالبهم بسرعة التخلص من العملة الأميركية قبل يوم 15 سبتمبر.
ولا أعرف حتى الآن لما هذا التاريخ بالذات، هل سرب له أحد معلومة مفادها قرب ابرام الحكومة توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد في هذا اليوم، أم قرب حصول الحكومة على وديعة خليجية ضخمة تضاف لاحتياطي البنك المركزي.
واللافت هنا أن يخرج المذيع على الناس بهذا التحذير الغامض في برنامج له على التلفزيون المصري الرسمي، راح خلاله يتحدث في أمور اقتصادية ونقدية حساسة بشكل غير منصف ولا موضوعي، ويقدم النصائح بسرعة تبديل المدخرات من العملة الصعبة، ويطلق توقعات ومنها هبوط الدولار مقابل الجنيه المصري.
لم يكتفِ الحسيني بذلك بل أثار حالة من الهلع والذعر في سوق الصرف وداخل أروقة البنوك وشركات الصرافة، وبين أصحاب المدخرات من عوام الناس الذين ليس لديهم خبرة كافية في إدارة الأموال والنقود وتحركات سوق الصرف، إذ قال زاعماً: "نصيحة لوجه الله، اللي عنده دولار يطلعه ويوديه البنك قبل 15 سبتمبر، محبة وجدعنة مني الحق زمان محدش سمع الكلام، وبعدها الجميع جري يغير الدولار في البنك، طيب الحقوا نفسكوا قبل 15 سبتمبر".
علامات أستفهام حول أسباب دعوة المذيع ونائب البرلمان المصريين التنازل عن الدولار وبيعه قبل يوم 15 سبتمبر
أما النظرية الثانية فقادها ورسم ملامحها النبي يوسف الصدّيق، عليه السلام، الذي نجح في إنقاذ المصريين من سبع سنوات عجاف، وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية طويلة الأجل وغير مسبوقة، وقبلها تولى إدارة الدولة وخزانتها وماليتها وقطاعها الزراعي في وقت عصيب من تاريخ البلاد.
نظرية تم بموجبها التخطيط العلمي الجيد لمعالجة أسوأ ازمة اقتصادية مرت بها مصر في العصر القديم وربما الحديث وهو كارثة جفاف نهر النيل وندرة المياه لسنوات طوال، حيث وضع النبي يوسف الصديق خطة محكمة أسفرت عن استفادة مصر القصوى من 7 سنوات سمان نجح خلالها في تحقيق الأمن الغذائي والمائي للدولة، والاستفادة القصوى من الموارد العامة، وبناء احتياطي استراتيجي للدولة، ليس فقط من الحبوب والغلال، بل من الثروة الحيوانية والأموال.
ومن بين ملامح هذه النظرية، تطبيق منظومة حديثة للضرائب لا تقل في الكفاءة عن الإدارة الحالية للإيرادات العامة، إذ منح تسهيلات وإعفاءات ضريبية للممولين وأصحاب الأراضي، مقابل سداد معجّل للأموال العامة المستحقة عليهم، بحيث تتجمع للحكومة سيولة نقدية مكّنتها في وقت لاحق من بناء مخازن القمح والغلال، وشراء الحبوب اللازمة للزراعة لسنوات طوال، وتمهيد الطرق، واستصلاح الأراضي وتوسيع رقعتها، ومد شبكات الري والصرف، وعمل مقاييس للنيل، وحرث الأرض الصحراوية أيضاً.
لا وجه للمقارنة بين النظريتين أو المدرستين، فالفارق بينهما هو ما بين السماء والارض، والنظرية الأولى، نظرية الحسيني، خسرت على المدى القصير لقيامها على الخداع والكذب وعدم مراعاة مصالح الناس، ولم تضر فقط بسمعة المذيع الذي تحول إلى مادة دسمة للفضائيات ومواقع التوصل الاجتماعي والمغردين؛ إذ سارع الجميع إلى "التحفيل على يوسف الحسيني"، وإطلاق عدة هاشتاغات، أبرزها الدولار قفز على يوسف الحسيني و15 سبتمبر، بل أضرت بسوق الصرف الأجنبي الذي شهد حالة من الترقب الشديد صاحبتها زيادات متواصلة في سعر الدولار.
هذه النظرية عمقت مبدأ فقدان ثقة المواطن في الإعلام بما فيه الحكومي، وأقنعت قطاع كبير من المدخرين أن الحكومة والإعلام التابع لها لا يعملان لصالحه، بل ويخدعانه عبر إعلاميين محسوبين على السلطة الحاكمة.
يوسف الصديق أنقذ مصر من سنوات عجاف وحقق رخاء اقتصادي هو الأفضل في الدولة القديمة
أما النظرية الثانية، نظرية يوسف الصديق، فكسبت على المدى المتوسط والبعيد بل والقريب أيضا، رغم الظلم الكبير الذي تعرّض له النبي يوسف وإيداعه السجون لسنوات طوال، لأنّها ببساطة قائمة على الصدق والأمانة والعفة، وعدم التدليس، ومراعاة الصالح العام.