رغم تغيُّر معطيات المشهد الإقليمي والعالمي، لا يزال الغزو العراقي للكويت عام 1990 كابوساً يؤرِّق بعض الدول الخليجية، التي تنعم بثروات نفطية ضخمة وفوائض مالية هائلة نتيجة ارتفاع أسعار النفط، ومستويات مرتفعة من الدخل القومي للفرد، لذلك فهي تسعى جاهدة إلى اكتساب مكانة لها ثقلها واحترامها في المجتمع الدولي من خلال التركيز على القوّة الناعمة بدلاً من القوّة الصلبة.
تُعتبر قطر أبرز وأفضل مثالٍ على تسخير عائدات النفط والغاز في تشكيل سياسة قوّة ناعمة واسعة النطاق، متطوِّرة للغاية، ومتعدِّدة الجوانب، فقد حرص هذا البلد الخليجي على امتلاك قاعدة عملاء متنوِّعة لغازه، الذي ازداد توهُّجه منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وتبنِّي سياسة خارجية سريعة الاستجابة بالتركيز على الوساطة، كالخطوات الهامّة التي اتُّخذت لتحقيق الاستقرار في أفغانستان، وإنشاء شبكات تلفزيونية منافسة لشبكات بي بي سي وسي أن أن، وإيلاء الكثير من الاهتمام لصناعة الرياضة، وتحقيق الريادة في مجال النقل الجوِّيّ، وافتتاح متاحف عالمية المستوى، والاستثمار في العقارات والقطاعات الأخرى في العديد من عواصم العالم.
لكن يبقى تنظيم كأس العالم لعام 2022، بكل ما صاحبه من إنجازات كبيرة في فترة قياسية، التوليفة المثلى في استراتيجيات القوّة الناعمة القطرية، لا سيَّما في عصرنا الحالي الذي تسوده القومية والشعبية المتصاعدة. فالصورة الحسنة التي تنقلها قطر لزوّارها والمشجِّعين من كل أنحاء العالم تُكسِبها قبولاً هامّاً في المجتمع الدولي، وتجعل منها قدوة حسنة في نظر كل من سئموا من تبديد الثروات في بلدانهم على مشاريع تنزوي خجلاً مـن ضآلتها أمام حجم الفساد الذي صاحبها، وحتى في نظر الأميركيين الذين ضجروا من انخراط بلادهم في صراعات الشرق الأوسط وتأجيجها تحت ذريعة مكافحة الإرهاب باستخدام عائدات الضرائب المفروضة عليهم.
رغم الجهود الجبَّارة التي بذلتها قطر لإثبات قدرتها على تنظيم نسخة مميَّزة من كأس العالم لا تُنسى، إلاّ أنّها تعرَّضت لحملة غير مسبوقة من الانتقادات لم يواجهها أي بلد مضيف من قبل، وكان من الواضح أنّه انتقاد لمجرَّد الانتقاد والمكايدة السياسية والحصول على مصالح، فقد انحصرت الاعتراضات في نقطتي معايير حماية العمالة الوافدة وقضية المثليين، وهما نقطتان لا تصلان في خطورتهما إلى الانتقادات بشأن تدخُّل روسيا في أوكرانيا عام 2014 وضمِّها شبه جزيرة القرم التي رافقت النسخة الماضية من بطولة كأس العالم في روسيا 2018، لا سيَّما بعد ما آلت إليه التطوُّرات في الحرب الروسية الأوكرانية، وهذا ما يؤهِّل قطر لكسب معركة ضدّ الفكر النقدي السلبي، غير الموضوعي، والعدواني.
يعتبر تعزيز القوة الناعمة من خلال الرياضة أولوية كبيرة في قطر، نظراً لكون الرياضة من أهمّ وسائل جذب الانتباه العالمي، فعلى عكس الكثير من الدول العربية، أصبحت قطر دولة معروفة في كل أنحاء العالم بفضل تنظيمها مونديال 2022.
ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ فحسب، بل يمتدّ إلى اكتساب هذا البلد الخليجي لقب أفضل منظِّم لبطولة كأس العالم. وهنا تظهر مزايا أخرى للعلن لم تكن معروفة للأغلبية الساحقة من شعوب العالم من قبل، كأفضل بلد من حيث الفرص الاقتصادية، ومستويات المعيشة، والأمان، والاستقرار، وضمان كرامة الانسان، والاحترام، والتعايش السلمي، بحيث تعتلي قطر مكانة بارزة في قائمة الدول المسالمة والمثالية للعيش الكريم، وكذا في مصاف الدول المُرحَّب بتأثيرها وتدخُّلها ووساطتها في القضايا الدولية بالغة الأهمية والحساسية.
وهذا ما لم يستسغه الغرب الذي لا يتقبَّل فكرة التفوُّق العربي في هذه النقطة تحديداً، لذلك فقد بذل قصارى جهده للامتناع عن المشاركة، حتى بأبسط الطرق، في أيّ ترويج لهذا الحدث الرياضي العالمي الذي يبرز مدى قوّة القدرات القطرية، فقد أعلنت عدّة مدن فرنسية، بالإضافة إلى العاصمة باريس، أنّها ستقاطع مونديال 2022 ولن تنشئ مناطق مخصَّصة للمشجِّعين لمشاهدة المباريات، كما تعوَّدت أن تفعل دائماً، والأمر سيان في ألمانيا وبلجيكا.
مونديال 2022 هو أحد أهمّ أشكال القوّة الناعمة التي تسعى قطر إلى استخدامها بشكل فعّال، إلى جانب أشكال أخرى، لاحتلال مكانة استراتيجية في النظام الجيوسياسي العالمي الجديد الذي يتخبَّط في أزمة الطاقة الحادّة، حيث تقف قطر حالياً في وضع جيِّد يُمكِّنها من كسب المزيد من الأصدقاء والتأثير في السياسات على الساحة الدولية، نتيجة امتلاكها ثالث أكبر احتياطي للغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا وإيران اللتين تخضعان لعقوبات غربية.
وهنا يتَّضح مدى تناقض سلوك الدول الأوروبية التي تعترف، من ناحية، بأهمية قطر، وترحِّب بصداقتها، وتشيد بالعلاقات الثنائية معها عندما يتعلَّق الأمر بواقعية التكيُّف القاسي مع ظروف غياب الغاز الروسي، بينما لا تتردَّد، من ناحية أخرى، بانتقادها عندما يتعلَّق الأمر بممارسة القوّة الناعمة من خلال الرياضة؛ هذا التناقض ليس من قبيل الصدفة، بل نتيجة حتمية لعقيدتها التي تقتضي محاربة الإسلام والعروبة، فعلى سبيل المثال، لا توجِّه هذه الدول انتقادات مماثلة لدولة الاحتلال الإسرائيلي التي تنتهك بشكل صارخ حقوق الفلسطينيين والقانون الدولي والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
من جانبه، صرَّح الرئيس الأميركي بايدن، في يناير/ كانون الثاني الماضي، بأنّ قطر هي حليف رئيسي للولايات المتَّحدة من خارج حلف شمال الأطلسي "الناتو"، بعد مساهمتها الفاعلة في إجلاء الرعايا الأجانب من أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي، وهذا شكل آخر من أشكال القوّة الناعمة الذي تبرز من خلاله قطر حضورها السياسي القويّ في الساحتين الإقليمية والدولية.
لكن الدولة القطرية تدرك تماماً أنّ ذلك وحده لا يكفي، وهناك حاجة ماسّة إلى استخدام تكتيك آخر من تكتيكات القوّة الناعمة لكي تحظى بقبول شعبي على الصعيد العالمي، ولتصبح أيضاً مركزاً إقليمياً ودولياً للأعمال والسياحة، وليس هناك ما هو أفضل من تنظيم مونديال، يبقى خالداً في الذاكرة، لتحقيق ذلك.
خلاصة القول، يعتبر مونديال 2022 دليلاً لا يدحض على حنكة قطر ورؤيتها بعيدة المدى، وبراعتها في تحقيق مكاسب جمّة من استخدام القوّة الناعمة في إنتاج النجاح الجيوسياسي وتعزيز مكانتها في النظام الدولي، وخير مثال على ذلك حضور وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان حفل افتتاح المونديال الذي عكس وأد الخلافات المتبقِّية من حصار 2017.