لا أعرف من الذي يسكب المزيد من الزيت الحارق على نيران الأزمة المالية المشتعلة في مصر، ومن الذي يزيد الوضع الاقتصادي تأزما ويصعّب الوضع المعيشي على المواطن؟
ومن الذي يحقق مكاسب أو مصلحة من زيادة التوتر المجتمعي الناتج عن استمرار زيادة التضخم ولهيب غلاء الأسعار وتهاوي العملة الوطنية، ومن الذي يمنح الأسعار وقودا إضافيا لتواصل اشتعالها؟
ومن المستفيد من رفع منسوب التوتر والقلق داخل المجتمع ونقل القلق من الأسواق وأنشطة الاقتصاد المختلفة إلى أصحاب المدخرات والمتعاملين مع البنوك، وأيضاً للقطاع الخاص ورجال الأعمال الذين كانوا في السابق يئنون في الخفاء ومن وراء ستار وحجب، أما الآن فقد خرج أنينهم وصراخهم إلى العلن وصفحات الجرائد؟
لا أظن أن "المتآمرين" على مصالح الدولة العليا والذين يستهدفون الإضرار بالاقتصاد، و"أهل الشر" هم الذين أصدروا القرارات الثلاثة، بل الحكومة هي التي أصدرتها
هذه الأسئلة وغيرها تأتي على خلفية قرارات حكومية كثيرة اتُخذت خلال الأيام الماضية على عجل ومن دون دراسة متأنية، أو بحث تأثيراتها الخطرة على مناخ الاستثمار والأنشطة الاقتصادية المختلفة والأسواق والقطاع المصرفي والمالي.
لكن هناك 3 قرارات يجب التوقف عندها كثيرا ودراسة تأثيراتها الخطرة على الاقتصاد والمواطن ومناخ الاستثمار، والقرارات هي:
القرار الحكومي الأول، نشر في الجريدة الرسمية يوم 7 ديسمبر/كانون الأول الجاري ويقضي باشتراط الحصول على موافقات أمنية لـ83 نشاطاً تجارياً من أنشطة المحال العامة.
القرار أخضع جميع الأنشطة التجارية تقريباً لأحكامه، ومنها: محال بيع وتأجير الملابس، وتصفيف الشعر، والسوبرماركت، وصالات الألعاب الرياضية، ومحال بيع المشروبات الغازية غير الكحولية، والهايبرماركت، والبقالة، والأسواق بأنواعها، والمقاهي والكافيهات والكافتيريات، والألعاب الإلكترونية.
حتى محال بيع الأجهزة الكهربائية والإلكترونية المستعملة، وبيع وصيانة الهواتف بأنواعها، وبيع وصيانة الكمبيوتر واللاب توب ومستلزمات الطباعة، والاتصالات والسنترالات تشترط الحصول على موافقة أمنية، وكذلك مكاتب الرحلات والدعاية والإعلان وخدمات رجال الأعمال، وديكور الأفراح والفراشة، والمكتبات ومحال التصوير، وبيع الورق والكرتون، واستديوهات تسجيل الموسيقى.
قرار الكشف عن سرية الحسابات أثار قلق أصحاب المدخرات، والوقت غير مناسب لتمريره في ظل الضغوط المتزايدة على القطاع المصرفي
السؤال هنا: لمَ هذا القرار في هذا التوقيت الحساس، ولمَ القرار أصلا، هل الحكومة التي تتغنى بتشجيع الاستثمار ليل نهار مدركة أن حصول المواطن على تلك الموافقات لأنشطة تجارية بسيطة قد يأتي بنتائج عكسية، وأن الخطوة لا تسهل ولا تشجع أنشطة التجارة والاستثمار، بل تضع المزيد من التعقيدات على الأنشطة المختلفة، ولماذا تشترط الحكومة هذا الشرط أصلا، ما الهدف منه؟
أما القرار الثاني الذي أربك الأسواق والمواطن فيتعلق بتشريع مررته الحكومة ويسمح لمصلحة الضرائب ووزارة المالية بتبادل المعلومات مع البنوك، وهو ما يعني الاطلاع على حسابات وأرصدة عملاء البنوك والتعدي على السرية المصرفية وانتهاك قانون البنوك.
صحيح أن البنك المركزي ومصلحة الضرائب سارعا إلى إصدار بيانين يؤكدان فيهما أن التشريع لأغراض تتعلق بتنفيذ بنود اتفاقية دولية، وأنه لن يمس بسرية حسابات المتعاملين مع البنوك، لكن القرار أثار قلق أصحاب المدخرات، إضافة إلى أن الوقت غير مناسب على الإطلاق لتمريره في ظل الضغوط المتزايدة على القطاع المصرفي وزيادة حدة أزمة العملة.
أما القرار الثالث فيتعلق بإصرار الحكومة على تطبيق منظومة الفاتورة الإلكترونية على النقابات المهنية والتي تلزم أصحاب المهن الحرة، مثل المحامين والمحاسبين القانونيين والأطباء والمهندسين والاستشاريين والفنانين، بالتسجيل في المنظومة، وهو القرار الذي لاقى اعتراضا من قبل أعضاء النقابات الذين خرجوا إلى الشارع في تظاهرات "مهندسة ومدارة"، حسب وصف البعض، كما واجه القرار اعتراضا قويا حتى من قبل رؤساء النقابات المحسوبين على الحكومة.
القرارات وغيرها صدرت في وقت غير مناسب، وكأن الأسواق في مصر في حاجة إلى "لخبطة وتوتر"، وكأن الأنشطة في حاجة إلى مضايقات ومتاعب جديدة
هذه القرارات وغيرها صدرت في وقت غير مناسب، وكأن الأسواق في مصر في حاجة إلى "لخبطة وتوتر"، وكأن الأنشطة في حاجة إلى مضايقات ومتاعب جديدة، ففي الوقت الذي تبحث فيه الجهات المسؤولة في الدولة وفي مقدمتها البنك المركزي عن خطوات لاحتواء أسوأ أزمة عملة تمر بها البلاد، نجد أن هناك من يسكب مزيدا من الزيت على نار الأزمات الاقتصادية والمالية.
لا أظن أن "المتآمرين" على مصالح الدولة العليا والذين يستهدفون الإضرار بالاقتصاد القومي، و"أهل الشر" هم الذين أصدروا القرارات الثلاثة، بل الحكومة هي التي أصدرتها في وضح النهار، ولا نعرف حتى الآن السر وراء توتيرها الاقتصاد والأسواق والمواطن.