لم تقلل التحركات الدبلوماسية التي تقوم بها مصر حاليا في نيويورك قلق المصريين الشديد من تداعيات الملء الثاني لسد النهضة الإثيوبي، وإصرار إثيوبيا على الإضرار بحقوق مصر المائية، وهو ما ترجمه مؤشر البورصة المصرية الذي تراجع بشدة الثلاثاء.
وفي الوقت الذي يعقد مجلس الأمن الدولي جلسة بعد غد الخميس لبحث أزمة ملف السد، تواصل إثيوبيا تعنتها وانتهاك القوانين والأعراف الدولية المتعلقة باستغلال الموارد المائية، وترفض أي اتفاق ملزم للملء والتشغيل، بل وأعلنت بدء عملية الملء الثاني للسد ضاربة بالمطالب المصرية والسودانية عرض الحائط، وهو ما أثار أكثر قلق المصريين على أمنهم المائي، وارتدادات الملء الثاني الخطيرة على الاقتصاد المصري وقطاعاته الرئيسية ومنها مياه الشرب والزراعة والصادرات، وتعميق أزمة الفقر المائي التي تعاني منها البلاد.
ولم يقلل من هذه المخاوف سرعة اعلان الحكومة المصرية البحث عن حلول للأزمة المتوقعة عبر الإعلان عن مشروعات لمعالجة مياه الصرف الصحي وتحلية مياه البحر لدرء مخاطر سد النهضة، خاصة بعد بدء الملء الثاني وإصرار إثيوبيا على التعامل بشكل منفرد مع هذا الملف المهم واستكمال مخططاتها الهادفة إلى تخزين المياه وزيادة إنتاجها من الكهرباء، بل وإقامة سدود أخرى.
وقال عبد التواب بركات خبير المياه والزراعة المصري إن تداعيات السد بحجم 74 مليار متر مكعب ستكون كارثية على دولتي المصب، مصر والسودان، وتأثيراته ستكون عنيفة وتهديدا وجوديا للحياة في الدولتين. ومهما طالت سنوات الملء، بتوقيع اتفاق ملزم أو بسبب تعثر إثيوبيا في البناء، فلا يعني ذلك إلا تأجيل وقوع الكارثة ريثما يكتمل البناء. ذلك أن ملء الخزان سوف يؤدي إلى تفريغ بحيرة السد العالي من المياه للأبد خلال 4 إلى 6 سنوات، ولن تتوفر فرصة لملئها مرة أخرى، وتحرم مصر من فوائدها في تعويض عجز المياه في سنوات الفيضان المنخفض وأثناء دورات الجفاف التي قد تصل إلى 7 سنوات، كما حدث في سنة 1980 حتى 1987.
كما أن انخفاض حصة مصر من المياه بمقدار 20 مليار متر مكعب سيؤدي إلى تبوير 4 ملايين فدان من الرقعة الزراعية حسب بركات، وفقدان 6 ملايين مزارع يعولون 30 مليون مواطن لمصدر طعامهم، وخسارة 8.5 مليارات دولار من الإنتاج الزراعي، وزيادة الواردات الغذائية، التي وصلت إلى 15 مليار دولار العام الماضي، بمعدل 3 مليارات إضافية.
وبحسب الخبير المصري المتخصص في الاقتصاد الزراعي" سيؤدي السد إلى توقف محطات مياه الشرب الواقعة على نهر النيل كما حدث في السودان أثناء الملء الأول السنة الماضية، وسيزيد تلوث مياه النهر والترع والمصارف والبحيرات الشمالية وسيقضي على الثروة السمكية، وتدخل مياه البحر تحت أراضي الدلتا ويزيد تملح الأراضي، وينزح السكان من الريف إلى المدن، وتزيد الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر البحر المتوسط. وستضيع فرصة إعادة ملء بحيرة السد العالي مرة ثانية، وستتجاوز أضرار سد النهضة سنوات الملء إلى مراحل التشغيل".
وأعلن وزير الموارد المائية والري المصري، محمد عبد العاطي، أول من أمس، أنه تلقى خطاباً رسمياً من نظيره الإثيوبي يفيد ببدء إثيوبيا في عملية الملء الثانى لسد النهضة، وتوجيه خطاب رسمي إلى الوزير الإثيوبي أخطره فيه "برفض مصر القاطع لهذا الإجراء الأحادي الذي يعد خرقاً صريحاً وخطيراً لاتفاق إعلان المبادئ.. وسيؤدي إلى خلق وضع خطير يهدد الأمن والسلم على الصعيدين الإقليمي والدولي".
مخاوف المستثمرين
وتصاعدت مخاوف المصريين سريعاً من تداعيات ملف المياه وأزمة السد الإثيوبي، إذ هبط مؤشر البورصة الرئيسي في أول ساعة من تداولات أمس الثلاثاء، بنحو اثنين بالمائة وسط قيم تداولات ضعيفة بعد إبلاغ إثيوبيا الليلة قبل الماضية لمصر والسودان ببدء الملء الثاني لخزان سد النهضة. وأغلق المؤشر على انخفاض بنسبة 1.87% إلى 10.154.79 نقطة.
وقالت رئيسة مجلس إدارة شركة ثري واي لتداول الأوراق المالية، رانيا يعقوب، لرويترز: "ما يحدث هو عمليات خوف من قبل الأفراد المستثمرين مما يدفعهم للبيع بالسوق". وأوقفت بورصة مصر التداول على 37 سهما لمدة عشر دقائق بعد تراجعها أكثر من خمسة بالمائة، وفقدت الأسهم نحو 12.3 مليار جنيه (783.4 مليون دولار) من قيمتها السوقية في أول ساعة من تداولات أمس. وحسب مراقبين، فإن البورصة والمستثمرين في انتظار رد الفعل المصري على الخطوة الإثيوبية الأحادية.
وفي الوقت الذي تقول إثيوبيا إن السد، الذي أقيم على النيل الأزرق فيها، أساسي لتنميتها الاقتصادية وتزويد شعبها بالكهرباء، ترى مصر أن السد تهديد خطير لحصتها من مياه النيل التي تعتمد عليها بالكامل تقريبا. ومن المقرر أن يناقش مجلس الأمن الدولي القضية يوم الخميس.
فقر مائي
واعترف رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، مؤخراً أن مصر، التي تعتمد على النيل بنسبة 97% في مياه الشرب والري، دخلت مستوى الفقر المائي الحاد، مشيراً إلى أن السبب في ذلك هو الزيادة السكانية مع ثبات حصة الدولة من الموارد المائية. الفقر المائي يعني أن يكون نصيب الفرد أقل من 1000 متر مكَعّب، بينما وصل نصيب الفرد في مصر إلى أقل من 600 متر مكعب. وتتوقع الحكومة أن ينخفض نصيب الفرد إلى 400 متر مكعب في 2050. علماً بأن استهلاك مصر الإجمالي من المياه يقدر حالياً بـ110 مليارات متر مكعب.
الآليات التي أعلنت عنها الدولة على أمل تجاوز هذه المشكلة، إضافة إلى مضاعفات إنشاء السد الأثيوبي؛ تتمثل في معالجة مياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي وتحلية مياه البحر، لمواجهة محدودية الموارد المائية. وهي آليات مكلفة وتأخرت كثيراً.
معالجة مياه الصرف
وأعلن وزير الإسكان المصري، عاصم الجزار، في إبريل/نيسان الماضي، أن وزارته تستهدف إنشاء 151 محطة ثنائية وثلاثية لمعالجة مياه الصرف الصحي في المحافظات والمدن الجديدة، بطاقة إجمالية تصل إلى 5.051 ملايين متر مكعّب في اليوم، وتكلفة تبلغ 31.59 مليار جنيه (نحو ملياري دولار) ، وذلك بخلاف 59 محطة معالجة انتهت من تنفيذها في محافظات الصعيد لخدمة 8.3 ملايين مواطن، بواقع 37 محطة معالجة ثنائية، و22 محطة معالجة ثلاثية.
وبالفعل اقترب الانتهاء من عديد المشاريع في هذا الاتجاه، إذ أكد مساعد نائب رئيس هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة لتنمية وتطوير المدن، كمال بهجات، أنه جارٍ الانتهاء من المرحلة الأولى من مشروع محطة معالجة الصرف الصحي الميكانيكية بطاقة 40 ألف متر مكعب يومياً بمدينة السادات، مشيراً إلى أن نسبة إنجاز المشروع بلغت نحو 95% بتكلُفة استثمارية حوالي 223 مليون جنيه، ومن المقرر أن يتم التشغيل الجزئي للمحطة في أقرب وقت.
وخلال أكثر من 6 سنوات، فشلت السودان ومصر في التوصل مع إثيوبيا إلى اتفاق حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، ما دفع المتضررين إلى اللجوء إلى مجلس الأمن الذي استجاب لطلب عقد جلسة لمناقشة النزاع بشأن سد النهضة الإثيوبي.
وحسب دراسات حديثة، تحتاج الأراضي الزراعية إلى نحو 57 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، أي أكثر من حصة مصر الحالية في مياه النيل، والبالغة 55.5 مليار متر مكعّب، فضلاً عن 3 مليارات تستخدمها الصناعة، و10 مليارات للاستخدام المنزلي، بما يعني صعوبة تعويض نسبة العجز عبر تحلية مياه البحر، أو معالجة مياه الصرف الصحي، لا سيما مع النقص المرتقب في حصة مصر من مياه النيل جراء تداعيات سد النهضة.
نصيب المواطن
وحسب بيانات رسمية، يبلغ نصيب المواطن المصري من المياه نحو 600 متر مكعب سنوياً، بينما يقف خط الفقر المائي عند 1000 متر مكعب، ما يعني وجود عجز في نصيب الفرد مقداره 400 متر مكعب سنوياً.
ووفقاً للتقرير الثالث من سلسلة تقارير الوضع المائي في المنطقة العربية 2019، والذي يصدر كل ثلاث سنوات برعاية جامعة الدول العربية، فقد تناقص متوسط نصيب المواطن من المياه العذبة المتجددة نتيجة الشح المائي إلى نحو 565 متراً مكعباً سنوياً، وأن سكان 17 دولة عربية ومنهم مصر يعيشون تحت حد الفقر المائي المقدر عالمياً بنحو 1000 متر مكعب، وبلغ عدد المحرومين في الدول العربية من خدمات مياه الشرب النقية حوالي 63 مليون نسمة، وعدد المحرومين من خدمات الصرف الصحي الاَمن حوالي 79 مليون نسمة.
والأراضي الزراعية الخصبة تواجه تحدياً كبيراً بسبب الزحف العمراني على الغطاء الخضري، إذ بلغ حوالي 188 ألف هكتار (451 ألف فدان)، وهو ما أدى إلى تحويل المياه المستهلكة في الزراعة (حوالي مليار متر مكعب سنويًا) إلى استخدامها بالمنازل.
وأكدت وزيرة التخطيط المصرية هالة السعيد، في تصريحات صحافية يوم 22 يونيو/ حزيران الماضي، أن الحكومة المصرية تستهدف زيادة مساهمة قطاع الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي لتصل إلى 12% بحلول عام 2024، فضلًا عن زيادة الإنتاج الزراعي بنسبة 30% بحلول عام 2024، بالإضافة إلى خلق فرص عمل جيدة في هذا القطاع وزيادة دخل صغار المزارعين، وزيادة صادرات المحاصيل والصناعات الزراعية بمضاعفة حصة القطاع في الصادرات من 17% عام 2020 إلى 25% عام 2024.
ووفقا لمراقبين فإن هذه الأهداف يصعب تحقيقها في ظل الفقر المائي الذي يهدّد مصر جراء الملء الثاني لسد النهضة، وبالتالي فإن شح المياه سيعطل الكثير من البرامج الحكومية في القطاع الزراعي.