لا يمكن إخفاء قلق القائمين على النظام المصرفي الفلسطيني، الذي سببه قرار وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش في اليوم الأخير من شهر أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، بتجديد رسالة الضمانات للبنوك الإسرائيلية للتعامل مع البنوك الفلسطينية، لمدة شهر واحد فقط، بينما كانت تمدد قبل شن الاحتلال الحرب على غزة كل سنة أو سنتين، بينما جددت نهاية مارس/ آذار الماضي لأربعة أشهر، ونهاية يوليو/ تموز الماضي لثلاثة أشهر.
ويأتي ذلك في ظل تصاعد المخاوف الفلسطينية من إعلان وزير المالية الإسرائيلي، أول من أمس، اعتزامه ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، مرحباً خلال اجتماع في الكنيست بفوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية، واعتبر ذلك فرصة لتحقيق أهدافه.
واعتبر أن "العام 2025 سيكون عام السيادة على يهودا والسامرة (الضفة الغربية). وقد أصدرت تعليمات لمديرية الاستيطان في وزارة الأمن وللإدارة المدنية ببدء عمل جماعي مهني وشامل من أجل إعداد البنية التحتية المطلوبة لفرض السيادة".
بنوك فلسطين تحت الابتزاز
يظهر القلق من عزل البنوك الفلسطينية جلياً في ظل تشديد الإجراءات المالية من قبل الاحتلال. وفي ظل غموض الأوضاع رفضت جمعية البنوك الفلسطينية الإدلاء بتصريحات حول الأمر، وكما جاء الرد لـ"العربي الجديد" فإن ذلك بسبب حديثها سابقاً عبر وسائل الإعلام، والتخوف من تكرار التصريحات في ظل تجديد رسالة الضمانات لشهر واحد فقط.
صحيح أن القلق يعود إلى أشهر، لكنه يزداد الآن مع فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، فكما يرى أستاذ الاقتصاد نصر عبد الكريم، فإن التجديد لشهر كان استجابة خجولة لضغوط أميركية أوروبية ومن مجموعة G7. لكن كما يقول عبد الكريم لـ"العربي الجديد": "وكأن في القرار انتظاراً لمفترق طرق وهو نتائج الانتخابات الأميركية، وفي حالة فوز ترامب؛ قد يعطي سموتريتش لنفسه اتخاذ إجراءات أشد".
لكن ما الذي يعنيه إبقاء البنوك الفلسطينية تحت ابتزاز عدم تجديد تلك الرسالة، وما الذي يعنيه تنفيذ التهديد؟ للإجابة لا بد من معرفة ماهية تلك الرسالة وما تؤديه.
تتم البنوك الفلسطينية بمعاملاتها بالشيكل مع النظام المصرفي الإسرائيلي عبر بنوك إسرائيلية "مراسلة"، وفي هذه الحالة عبر بنكي ديسكونت وهبوعاليم، ووفقاً للادعاء الإسرائيلي طلب البنكان قبل سنوات إنهاء الخدمات التي يقدمانها للبنوك الفلسطينية خشية مواجهتهما اتهامات قضائية "بتمويل الإرهاب" أو "غسل الأموال" بعد رفع قضايا ضد بنوك فلسطينية، فقررت حكومة الاحتلال منحهما حصانة، عبر رسائل حكومية، بالدفاع عنهما قانونياً في حال مواجهتهما دعاوى قضائية، وتعويضهما عن خسائر نتيجة تلك الدعاوى.
وبسبب عدم وجود عملة فلسطينية، والاعتماد على عملة الشيكل الإسرائيلي، فإن آثار وقف العلاقة مع البنكين الإسرائيليين قد يتعدى التعاملات الاقتصادية والمالية والتجارية مع الاحتلال، إلى التأثير على التعاملات المالية مع الخارج، فيما يرى بعض الاقتصاديين أنها قد تعزل البنوك الفلسطينية.
تقول سلطة النقد الفلسطينية لـ"العربي الجديد" في رد خطي مكتوب، إن مسألة العلاقة التجارية بين الطرفين كان يفترض أن تبقى ضمن الإطار الفني وألا يتم تسييسها، مشيرة إلى أن فلسطين تعتمد في تجارتها على إسرائيل كونها القوة التي تسيطر على المعابر، وأية بضائع تدخل او تخرج يجب أن تمر عبر الموانئ ونقاط التفتيش الإسرائيلية.
واعتبرت أن استمرار الاحتلال يعني صعوبة فتح أسواق جديدة، وأن ضمان استمرار علاقة المراسلة ضروري للاستقرار النقدي والمالي إلى حين إيجاد ترتيبات جديدة؛ التي تحتاج إلى وقت.
إرباك مالي وتجاري
يقول الصحافي والخبير الاقتصادي جعفر صدقة لـ"العربي الجديد"، إن رسالة الضمانات السنوية كانت تعطي البنوك الفلسطينية أريحية على المدى المتوسط، والتجديد لشهر واحد؛ هدفه إبقاء البنوك في حالة التوتر وعدم اليقين والغموض، وهو ما يعني إجبارها على التعامل مع كل الشؤون المصرفية بحذر، وحتى عدم التعامل مع أمور مالية متوسطة وطويلة الأمد، بسبب عدم القدرة على التنبؤ بما سيحدث، وهو بالضبط في رأيه ما تقصده حكومة الاحتلال.
ستؤثر خطوة وقف التعاملات مع البنوك الفلسطينية في حال تمت فعلاً، على الحركة التجارية الفلسطينية الإسرائيلية، والتي تعتبر عالية مقارنة بالتعاملات التجارية مع دول العالم، نتيجة ظروف الاحتلال والاتفاقات الاقتصادية وعلى رأسها بروتوكول باريس الاقتصادي، ففي عامي 2022 و2023 وفقاً لأرقام جهاز الإحصاء الفلسطيني، بلغت الواردات من السوق الإسرائيلي ما نسبته قرابة 57% من مجمل الواردات، وبلغت الصادرات إلى إسرائيل ما نسبته 86% من مجمل الصادرات.
يقول عبد الكريم، إن تنفيذ القرار يعني وضع كل العلاقات الفلسطينية مع الكيان الإسرائيلي في حالة إرباك، لأن التاجر الفلسطيني لن يستطيع الدفع للمورد الإسرائيلي ثمن بضاعته بطريقة رسمية، ولا يستطيع فتح اعتماد مستندي أو تحرير شيكات من البنوك الفلسطينية لهذا الغرض لأن البنوك الإسرائيلية ستتوقف عن تحصيلها، بل ستؤثر على المقاصة (ضرائب الأموال الفلسطينية) وسيصبح تحويلها عبر البنوك غير ممكن، ما يعني وجود حجج إسرائيلية لاقتطاع ما تريد منها لقاء ما يشتريه الفلسطينيون من أساسيات كالكهرباء والبترول والمياه.
وتؤكد سلطة النقد لـ"العربي الجديد" أن العلاقة المصرفية المراسلة ما بين المصارف الفلسطينية والمصارف العالمية لن تتأثر بمثل هذه الخطوة، بسبب احتفاظ الجهاز المصرفي الفلسطيني بعلاقات مصرفية مراسلة مع شبكة واسعة من البنوك حول العالم، وهو ما يؤيده عبد الكريم، مشيراً إلى وجود "كود سويفت" فلسطيني مستقل، إلا أن قطع الاحتلال العلاقة المصرفية ستوقف الواردات إلى السوق الفلسطيني كما تؤكد سلطة النقد، أو سيتم تسديد أثمانها نقداً.
ولجعفر صدقة رأي مختلف، إذ يؤكد أن مثل تلك الخطوة ستعزل البنوك الفلسطينية بشكل كبير عن النظام المصرفي العالمي، قائلاً إن البنكين الإسرائيليين يقومان بدور المراسل والوسيط بين البنوك الفلسطينية وكثير من البنوك العالمية، وقطع العلاقة يعني إبقاء معاملات مالية دولية محدودة جداً، فضلاً عن أن الاستيراد من الخارج يحتاج إلى عملات كاليورو والدولار. ويتساءل: إن كانت البنوك الإسرائيلية لن تستقبل الشيكل فمن أين ستحصل البنوك الفلسطينية على العملات الدولية؟
شل قدرة الاقتصاد الفلسطيني
يرى صدقة أن البنوك الفلسطينية في تلك الحالة ستتحول إلى مكاتب صرافة، إن توفرت لديها العملات، ولن تكون قادرة على تغطية الاعتمادات المالية للاستيراد لا من إسرائيل ولا من الخارج، ما يعني شل قدرة الاقتصاد الفلسطيني على التعامل مع العالم الخارجي والاستيراد، ما يعني عملية تجويع للفلسطينيين.
يستبعد كل من عبد الكريم وصدقة ذهاب الاحتلال لهذه الخطوة، بسبب ضغوط حلفائه الغربيين، وكذلك عدم اقتصار التأثير الاقتصادي على الفلسطينيين، بل يمتد إلى الاحتلال وتجاره ومصانعه.
يقول عبد الكريم إنه توقع في المرتين السابقتين عدم تنفيذ هذه الخطوة، بسبب اعتبارات دولية، فيما يقول صدقة إن هناك كتلة نقدية بين الفلسطينيين والإسرائيليين تراوح بين 25 إلى 30 مليار شيكل سنوياً أي من 6.7 إلى 8 مليارات دولار، وهناك صناعات إسرائيلية خاصة المنشآت الصغيرة تعتمد بشكل أساسي على السوق الفلسطيني ولا فرصة لها للتصدير إلى الخارج، ما يعني تدميرها، بما يعني ترجيح إبقاء هذه الخطوة للابتزاز وليس للتنفيذ.
لكن وحتى في حال التنفيذ، يرى عبد الكريم أن طريقاً آخر قد يتم شقه، عبر طرف ثالث وسيط، أو تفعيل شركة حكومية إسرائيلية وسيطة بين البنوك الفلسطينية والإسرائيلية لا تحتاج إلى ضمانات كان أنشأها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وجمدها لاحقاً.
أما البدائل الفلسطينية فتقول سلطة النقد في ردها على أسئلة "العربي الجديد" إنها تواصل جهودها مع الجهات الفلسطينية المختصة وأطراف دولية عديدة لضمان الحفاظ على العلاقة المصرفية المراسلة لتسهيل إجراءات التبادل التجاري وتسديد أثمان السلع والخدمات، ومنع أزمة إنسانية قد تقع نتيجة أي إجراء أحادي الجانب، كما تعمل على تطبيق استراتيجية للتحول الرقمي والحد من استخدام الكاش في المعاملات المالية والتجارية.
ويرى صدقة أن التعامل مع هذا الاستحقاق كان يجب أن يكون بشكل مبكر وعدم الانتظار منذ عام 1994 (توقيع بروتوكول باريس الاقتصادي)، لكن أي إجراء فلسطيني سيحمل في طياته مواجهة مع الاحتلال، سواء لجهة إصدار عملة محلية وهو أمر صعب في رأيه، أو التحول إلى عملة أخرى كالدينار الأردني وهو ما يتطلب إقامة مراكز مالية ومصرفية في الأردن بالاتفاق معه، لكن كل الخيارات في رأيه تعني الدفع إلى تفجير مواجهة بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية، حتى لو لم ترد السلطة ذلك.
ويعتقد عبد الكريم أن البنوك تبحث عن حلول استباقية، لكن مثل تلك الخطوة في رأيه لن تلغي التعامل بالشيكل الإسرائيلي في السوق الفلسطيني، لكنه سيجففه تدريجياً، نتيجة الانخفاض في العلاقات الاقتصادية أصلاً بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وهو في رأيه ما قد يشكل فرصة للفلسطينيين نحو "دولرة" الاقتصاد أو البحث عن بدائل أخرى، من دون الاستغناء عن الشيكل بشكل فوري.
وبحسب سلطة النقد، أدت التهديدات الإسرائيلية إلى قيام الجمهور الفلسطيني بتحويل ما لديهم من عملة الشيكل إلى عملات أجنبية في خطوة استباقية، وقد نتج عن هذه الممارسات زيادة الطلب على العملة الأجنبية مما أدى إلى فروقات في الأسعار وقد تعاملت سلطة النقد بحزم مع هذه الظاهرة للحيلولة دون نشوء سوق سوداء في فلسطين، لكنها ترى أن تكدس عملة الشيكل لدى المصارف الفلسطينية يخلق إشكاليات عديدة، ولا سيما عملية إدارة مراكز العملات المختلفة لدى المصارف.