خرجت أصوات إعلامية تبشر بقدرة النظام المصري على توجيه ضربات قوية للدولار، والاستغناء عن التزام مصر باتفاق صندوق النقد الدولي، بسعر مرن للدولار والعملة الصعبة تدفع الجنيه إلى مزيد من التراجع.
أحدثت الدعوات دهشة وسط الاقتصاديين الذين يعلمون صعوبة تهرب النظام من التزام قطعه على نفسه ولا يملك من أمره شيئا، في ظل أزمة مالية طاحنة، بينما لاقت الفكرة دعماً من محللين وسياسيين وخبراء اقتصاد، يأملون أن يتوقف نزيف الاقتصاد ببيع الأصول العامة التي يملكها الشعب، ولجوء الحكومة لمزيد من الاقتراض لتمويل مشروعات غير مجدية.
في ظل شفافية معدومة، حول تصريحات المسؤولين، والإعلام المدار أمنياً تبحث الدولة عن بوصلة اقتصادية تنقذها من أزمة اقتصادية ينحرف بها النظام للتوسع في مشروعات يعتبرها ذات أولوية سياسية للحصول على دعم شعبي واسع، أدت إلى تزايد خطير في معدلات الدين العام، يلتهم جل الناتج القومي، وقروض دولية فاقت 162 مليار دولار على الموازنة العامة نهاية عام 2022، عدا قروض الهيئات الاقتصادية المضمونة من الدولة تفوق التزاماتها نحو 50 مليار دولار.
هناك إجماع شعبي حول إسراف الحكومة في الاقتراض لتمويل مشروعات لم تستفد منها الأغلبية الساحقة التي أصحبت تعاني موجات الغلاء اليومية، وتخشى السلطة انفجارها، مع تذمر واضح من الشرائح العليا، وصلت إلى مجموعة النخبة من السياسيين ورجال الأعمال.
دفعت جهات سيادية - تدير أجهزة الإعلام - ببعض الأقلام والمذيعين للتبشير الأسبوع الماضي، بأن الحكومة عازمة على التوقف عن تنفيذ اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، الذي يلزمها بخفض قيمة الجنيه في تعويم رابع، يصل به إلى مرحلة غير معلومة القيمة، ويهدد باستمرار موجات التضخم وتراجع قيمة دخل المواطنين.
واكبت البشريات الإعلامية، تصريحات رئاسية بأن الدولة لديها حلول، ستمكنها من السيطرة على سعر الصرف المدار حاليا بالبنك المركزي، بما يحافظ على تراجع الدولار والعملة الصعبة أمام الجنيه. استغلت الأقلام المدارة عن بعد، تراجعاً طفيفاً في سعر الدولار، للترويج لامتلاك النظام وسائل بديلة توفر له مليارات الدولار المطلوبة لشراء احتياجات الشعب من السلع الأساسية والتي تقدر بنحو 5.3 مليارات دولار كلّ 3 أشهر، وتدبير التزاماتها من الديون وفوائد القروض المستحقة.
وسائل مواجهة الأزمة
بدت تصرفات رئيس الحكومة ووزراء في لقاءات مكثفة مع ممثلي اتحاد المستثمرين ورجال الأعمال خلال الأيام الماضية، مؤشرا على جديتها في امتلاك وسائل تمكنها من مواجهة الأزمة المالية، مع عدم اهتمامها بالتصريحات الساخنة التي أطلقتها قيادات صندوق النقد، تدعو النظام إلى سرعة الالتزام بتحرير سعر الصرف وبيع الأصول العامة، بما يضمن وفاء مصر بالتزاماتها المالية للمقرضين وقدرة الفقراء على مواجهة موجات الغلاء والتضخم.
أجرى الوفد المصري، الذي شارك في اجتماعات باريس الأسبوع الماضي، مفاوضات مع البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية للحصول على تمويل سندات بقروض ميسرة، للصرف على المشروعات الخضراء التي تقام بالمدن الشاطئية المهددة بغرق سواحلها، بفعل التأثيرات المناخية.
لم تحدد الحكومة أيّ مبالغ متوقعة من البنك. في الوقت نفسه تسعى إلى الحصول على دعم مالي من الصين بعد أن أصبحت عضوا مراقبا بمجلس إدارة صندوق بنك الاستثمار والتنمية، الداعم لمشروعات "الحزام والطريق"، في مايو/ أيار الماضي، بعد أن تكفلت الحكومة الصينية بدفع رسوم عضويتها في تأسيس البنك بقيمة مليار دولار، منذ عام 2017، مبينة أن الأموال ستوجه إلى مشروعات إقامة مزارع للرياح والطاقة الشمسية، التي تتميز بها الصناعات الصينية.
جفت الأقلام وخفتت أصوات المبشرين، بعد انتهاء مشاركة رئاسية في مؤتمر باريس واكبت صدورها تحذيرات من بنوك ومؤسسات مالية عالمية، على رأسها "دويتشه بنك" عن مخاطر توجه الحكومة إلى خفض جديد في قيمة الجنيه، وتشدد السياسات النقدية، واللجوء المستمر إلى القروض الأجنبية، دون البحث عن إعادة هيكلة شاملة للاقتصاد تمكنه من توليد الأموال وتوفير فرص العمل.
أزمة تهدد الأمن الاجتماعي
دعا سياسيون واقتصاديون إلى إلغاء الحكومة اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، الذي يفرض عليها بيع الأصول العامة، وسعر صرف مرن لجنيه عاجز عن مواجهة ضغوط الدولار الذي يتزايد الطلب عليه محليا.
اعتبر محللون هذه المطالب مشروعة في دولة مأزومة، يمكنها التراجع عما تعهدت به، طالما تهدد الأمن الاجتماعي للدولة، داعين إلى حصول الحكومة في حالة الضرورة على تسهيلات مالية من صديقة كالصين وروسيا والهند، لشراء المستلزمات الأساسية من حبوب وزيوت ولحوم، من الخارج، مع الاعتماد على شراء احتياجات القطاع الخاص والدولة باليوان والروبل، لوقف الضغط على طلب الدولار، الذي يدفع الجنيه إلى التراجع بعنف.
أكد رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب فخري الفقي لــ"العربي الجديد" أن اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي، يظل ملزماً للطرفين، مشيراً إلى أنه بعد برامج دعم مستمرة من الصندوق منذ عام 2016، حصلت مصر خلالها على قروض بنحو 20 مليار دولار، ومفاوضات شاقة استغرقت 9 أشهر أجرتها الدولة، للحصول على قرض ودعم دولي، يمكنها من مواجهة تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، أعقبها خروج الأموال الساخنة من البلاد، بنحو 22 مليار دولار.
أوضح الفقي أن الاتفاق حصل على موافقة من الدول الخمس الكبار في مجلس إدارة الصندوق الذي يضم الولايات المتحدة وفرنسا وإنكلترا وألمانيا واليابان، وممثلا دائما للسعودية وروسيا باعتبارهما من كبار ممولي الصندوق، مع موافقة من 24 مديرا تنفيذيا للصندوق يمثلون 16 مجموعة دولية على نطاق جغرافي بأنحاء العالم، وعلى رأسهم الصين.
يؤكد البرلماني المصري أن حصول مصر على الموافقة بالقرض، يعني دعما دوليا من الأمم المتحدة والدول الكبرى لمشروع يستهدف بالأساس إحراز إصلاحات هيكلية جريئة ومستمرة بجانب إصلاح مالي يجب أن يتحقق بحرفية شديدة.
يوضح الفقي لــ"العربي الجديد" أنّ هذا الاتفاق طلبته مصر ليعمل الاقتصاد على أسس سليمة وليست هشة، وينقله إلى مرحلة الصلابة، لافتا إلى أن هذه الإصلاحات تحتاج لفترة زمنية طويلة، وإدارة محترفة لعشرات السنين، لتنفيذ الإصلاحات وإزالة التشوهات والإجراءات غير المكتملة.
يبين الفقي صعوبة التراجع عن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، الذي حصل على دعم من 160 دولة عضوا بالصندوق، وضمانات من الدول الكبرى، والداعمين لمصر، بالحصول على القرض وقروض أخرى تساهم في سد الفجوة تقدر بنحو 17 مليار دولار على مدار سنوات قادمة، تساعد الحكومة في مواجهة الأزمات وتدبير الالتزامات المالية المدرجة بالخطط المتفق عليها مسبقاً مع صندوق النقد مستمرة حتى عام 2026.
صعوبة تراجع الحكومة
تظهر تصريحات المدير المساعد السابق بصندوق النقد الدولي، صعوبة تراجع الحكومة عن اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، الذي سيحرمها من قدرتها على طلب مساعدات من دول ومؤسسات دولية أخرى، في وقت تتراجع فيه معدلات النمو بالاقتصاد الصيني، وقيمة عملته اليوان، وتتصاعد أزمة الحرب الروسية في أوكرانيا، مخلفة تداعيات خطيرة على اقتصادها، وانقسام عالمي جيوسياسي، يظهر الطرف الغربي أكثر تحكما في إدارة الاقتصاد العالمي، تظهر في قوة صاعدة للدولار، ومن بعده اليورو.
تلهث الحكومة وراء العملة الأجنبية، للحصول على تسهيلات مالية أو قروض أو بيع أكثر من 32 شركة عامة، تستهدف تأمين 5 مليارات دولار بصفة عاجلة، لسداد التزاماتها المالية العاجلة، خلال هذه الأيام، وتدبير عجز يقدر بنحو 17 مليار دولار، خلال العام المالي 2023-2024، الذي يبدأ في يوليو/ تموز المقبل.
تراهن الحكومة على قدرتها من أجل وقف سعر الصرف المرن الذي تعهدت به مع صندوق النقد الدولي، أثناء التفاوض للحصول على قرض قيمته 3 مليارات دولار، مع مساعدتها للحصول على 1.3 مليار دولار أخرى من صندوق الاستدامة التابع له، للبدء في تنفيذ سياسة سعر الصرف المرن، وتخارج الحكومة من 79 نشاطا اقتصاديا، يمنح القطاع الخاص ريادة النشاط الاقتصادي، ويحد من تدخل شركات الجيش والجهات الأمنية في إدارة اقتصاد الدولة.
تحاول الحكومة تنويع مصادر التمويل، المحدودة لديها، عبر مفاوضات شاقة من مؤسسات تمويل دولية، حضرت قمة باريس الأسبوع الماضي، مهتمة بدعم تمويل الأسواق الناشئة لمواجهة التغيرات المناخية، على رأسها البنك الدولي والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.
رعب النظام
أصيب النظام بالرعب من عدم قدرته على مواجهة التضخم، الذي ارتفع إلى 32.7% بالمدن في مايو/ أيار الماضي، وهو الأعلى قيمة منذ التعويم الأول للجنيه عام 2017، بينما كان يبشر بألا يزيد عن 7% سنوياً، مع معدلات تنمية تفوقه، تراجعت رسميا إلى 4.2%، لعام 2023، و4.1% لعام 2024، بما يرفع معدلات البطالة ويزيد من الضغوط التضخمية المتوقع أن تصل إلى 35%، خلال العامين المقبلين.
تواجه الأسر المصرية ضغوطاً يومية خطيرة، مع فشل الحكومة في السيطرة على ارتفاع الأسعار، وعدم قدرة 60% من تعداد سكان بلغوا 105 ملايين نسمة على توفير احتياجاتهم الأساسية اليومية، مع تراجع الجنيه وموجات صادمة للغلاء.
يصارع القطاع الاقتصادي غير النفطي البقاء على حافة الهاوية عند مستويات ركود مستمرة منذ 30 شهراً، أدت إلى تراجع الأعمال ووقف تشغيل أغلب المعدات كلياً أو جزئياً، مع الاستغناء عن البطالة، بسبب تراجع الجنيه وشح العملة اللازمة لشراء مستلزمات الإنتاج وندرة المخزون وقدرة الطلب، مع تراجع القوة الشرائية للمستهلكين وعدم توافر السيولة لرجال الأعمال.
تعطل آلاف المصانع
يؤكد نائب رئيس اتحاد المستثمرين محمد خميس شعبان لـ"العربي الجديد" تعطل آلاف المصانع عن العمل، تقدرها دراسات محايدة، بنحو 8 آلاف مصنع كبير و200 ألف من المشروعات العائلية الصغيرة والمتوسطة.
تقول البرلمانية السابقة وأستاذة الاقتصاد بجامعة عين شمس، يمن الحماقي: "قبل البحث عن قروض علينا أن نصالح أنفسها ونكون جادين في البحث عن حلول تخرجنا من الأزمة الاقتصادية التي نمر بها".
تشير الحماقي في رسالة وجهتها للحوار الوطني، إلى أنّ المشروعات التي اقترضت الحكومة من أجلها، غير واضحة، وأن دور القطاع الخاص الذي يتوقع أن يقود الاقتصاد وتوفير فرص العمل أمام المواطنين يقل شهرياً.
تلهث الحكومة وراء العملة الأجنبية، للحصول على تسهيلات مالية أو قروض أو بيع أكثر من 32 شركة عامة، تستهدف تأمين 5 مليارات دولار بصفة عاجلة،
وتطالب أستاذة العلوم السياسية غادة علي موسى، الدولة بأن تتراجع وتقلل من دورها في النشاط الاقتصادي، وتحدد مهمتها بدقة، هل تكون دولة متدخلة أم منظمة؟ كي تضع التشريعات اللازمة لكل دور من هذه الأدوار، مؤكدة أن عدم تحديد هذه الأدوار، جعل الدولة مرتبكة، في أعمالها وأداء أجهزتها مع تراجعها في مؤشر سهولة الأعمال ليستقر في أدني المراتب عند 114 نقطة.
تؤكد موسى لـ"العربي الجديد" أن الدولة في حاجة إلى وضع منظومة هيكلة لإدارة الاقتصاد، تزيل كل مخاوف المستثمرين.
ويقول القيادي بحزب العيش والحرية، إسلام عوض، إن احتكار النظام للسلطة على مدار السنوات الماضية، أدى إلى احتكاره لتنفيذ مشروعات لم تراع الأولويات الاجتماعية، ابتعدت عن تنمية الإنسان، وسهلت الحصول على قروض دولية زادت من أزمات مصر الاقتصادية يدفع المصريون ثمنها يوميا.
يرفض عوض السماح للحكومة بالحصول على مزيد من القروض. يشير لـ"العربي الجديد" إلى ضرورة فرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء وتحديد أولويات المشروعات، التي ستمول من الموازنة العامة، حتى لا تستمر الدولة غارقة في دوامة القروض.