ماذا بعد في مصر؟

09 نوفمبر 2022
الدولار يواصل الارتفاع أمام الجنيه المصري غم القروض والودائع (فرانس برس)
+ الخط -

في مارس/آذار الماضي، سمح البنك المركزي المصري للدولار الأميركي بالارتفاع مقابل الجنيه المصري، في السوق الرسمية، ولأول مرة بعد سنوات من التثبيت، بأكثر من 15%، انتقل بها سعر الدولار من 15.75 جنيها إلى 18.25، جنيها، وقال البنك المركزي وقتها إن البلاد تمر بأزمة عملة أجنبية حادة، بعد نزوح مليارات الدولارات من الأموال الساخنة، التي كانت مستثمرة في أدوات الدين بالعملة المصرية.

وفي نفس اليوم، حصل البنك المركزي على وديعة جديدة من المملكة العربية السعودية، بقيمة 5 مليارات دولار، دعم بها احتياطي النقد الأجنبي في البلاد، الذي أظهر انخفاضاً في نهاية الشهر، أي بعد الحصول على الوديعة السعودية، بما يقرب من أربعة مليارات دولار.
وفي نفس اليوم أيضاً، أعلنت الحكومة المصرية بيع حصتها في خمسة من أفضل الشركات المدرجة في البورصة المصرية، مقابل الحصول على ملياري دولار من صندوق أبوظبي للثروة. وبدا واضحاً وقتها أن البنك المركزي اضطر لرفع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري ليمنح الصندوق الإماراتي "تخفيضاً" من أجل تشجيعه على تنفيذ الصفقة.

وخلال الشهور السبعة التالية، دخلت مصر في مفاوضات وصفوها بـ"الشاقة" مع صندوق النقد الدولي، وبعض المؤسسات الدولية الأخرى، ومع السعودية والإمارات، كما سعت الحكومة لبيع حصص في شركات أخرى، وجذب استثمارات أجنبية، سواء في صورة أموال ساخنة، في أوراق الدين بالعملة المحلية، أو في صورة استثمارات مباشرة، في مشروعات قائمة أو جديدة، فلم يكتب لكل هذه المحاولات من النجاح إلا أقل القليل.

وفي هذه الفترة، توقف تماماً بيع العملة الأجنبية في البنوك المحلية إلا لأغراض محددة، كالسفر للعلاج أو التعليم، وبكميات محدودة. أما العمليات التجارية، فلم تتمكن البنوك المصرية من توفير معشار حجم الطلبات المقدمة إليها، وفي سلع معينة، أطلق عليها اسم "استراتيجية"، وبعد الرجوع إلى البنك المركزي.

ولما كانت السوق الموازية (السوداء) غير خاضعة لأي قيود موجودة في السوق الرسمية، فقد انطلق الدولار فيها، ليتجاوز سعره 23 جنيهاً، بينما كان السعر في البنك، وحتى السابع والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول، لا يتجاوز 19.75 جنيهاً لكل دولار.

وخلال هذه الفترة أيضاً، تغير محافظ البنك المركزي، واستحدث المحافظ الجديد بعض الأدوات التي قال إنها تساعد المستوردين، وربما المستثمرين، على التحوط ضد تغير سعر الدولار، كعمليات الـ NDF، أو العقود الآجلة والمستقبلية (!!)، ورفَع معدلات الفائدة، وقدمت البنوك العديد من الأوعية الادخارية الجديدة مرتفعة العائد، بهدف تشجيع المواطنين على الاحتفاظ بمدخراتهم/ثرواتهم بالجنيه المصري، إلا أن الأزمة أخذت في الازدياد.

ثم جاء يوم السابع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول، فكانت مصر على موعد مع التعويم الثاني لعملتها في أقل من ست سنوات، ليرتفع سعر الدولار في البنوك المصرية بنسبة تجاوزت 20% (إضافية) في يومي عمل فقط، اضطر بعدهما البنك المركزي لشد اللجام من جديد، ليستقر السعر الرسمي عند 24.25 جنيهاً للدولار، بينما واصل السعر في السوق الموازية التحليق، بفارق يتجاوز عشرة بالمائة عن السعر الرسمي.

ومع الإعلان عن التعويم، أعلن البنك المركزي المصري التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، يسمح للحكومة باقتراض 3 مليارات دولار جديدة، ربما تصل إلى أربعة لو امتثلنا لشروطه المجحفة، بالإضافة إلى 5 مليارات دولار أخرى، اتفقنا على اقتراضها من "مؤسسات شريكة في التنمية"، على حد قولهم.

الصورة الحالية يمكن تلخيصها في سعر رسمي جديد للدولار في مصر (24.25)، لا يتم التعامل عليها إلا نادراً، بسبب عدم توفر العملة الأجنبية، وسوق موازية تجاوز سعرها عند كتابة هذه السطور سعر 27 جنيهاً للدولار، ولا تستطيع الوفاء بكل الكميات المطلوبة.

وتكتمل الصورة بتوضيح أن الاتفاق مع الصندوق والشركاء على اقتراض تسعة مليارات دولار، لن نحصل من خلاله، على الأرجح، على شيء قبل بداية 2023، وربما بعد ذلك بعدة أشهر، بينما تأكد امتناع السعودية والإمارات عن تقديم قروض إضافية، تساهم في الوفاء بالتزامات مصر خلال الربع الأخير من العام، وتعذر قدوم المستثمرين والأموال الساخنة، نظراً للظروف الواضحة للجميع الآن.

هذه الصورة، على قتامتها، تبدو أكثر واقعية من أي وصف يمكن أن تسمعه أو تقرأه في وسائل الإعلام المصرية، وتشير بوضوح إلى ضعف احتمالات تمكن الحكومة المصرية من الوفاء بالتزاماتها تجاه العالم الخارجي خلال الربع الحالي، أو تحقيق انفراجة في عملية الاستيراد التي تعطلت بصورة كبيرة خلال الأشهر الأخيرة، وتسببت في اختفاء العديد من السلع من السوق المصرية.

ومع ذلك، فقد تتمكن الحكومة من سد فجوة الربع الحالي، عن طريق جمع بعض الأموال من الدول الخليجية، أو عن طريق بيع بعض الأصول بأسعار مخفضة، بخلاف التخفيض الحاصل بفعل ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه، ليمر الربع بسلام، ودون الاضطرار إلى التوقف عن سداد مدفوعات الدين الخارجي، من أقساط وفوائد، في ما يطلق عليه إفلاس!
هذا ما يخص الأيام القليلة المتبقية من العام الحالي. فماذا عن العام القادم؟

فور توليه المسؤولية، أعلن حسن عبدالله، محافظ البنك المركزي الجديد أن مصر عليها 13 مليار دولار أقساط ديون مستحقة خلال الربع الأول من عام 2023. وبالإضافة إلى ذلك، يحل موعد أقساط فوائد تتجاوز ملياري دولار آخرين، على أقل تقدير.

وتعاني مصر من عجز في الميزان التجاري، تتجاوز قيمته خمسين مليار دولار، لن يقل نصيب الربع الأول من العام منه عن عشرة مليارات دولار، يضاف إليها متأخرات الاستيراد من العام الحالي، بعد أن تعهدنا لصندوق النقد الدولي بإلغاء إلزام المستوردين باستخدام نظام الاعتمادات المستندية، والعودة إلى نظام بوالص التحصيل، الذي كنا قد أوقفناه، بعد تسببه في اتساع عجز الميزان التجاري.

ولو وُضعت كل تلك الأرقام مع بعضها البعض، يمكن إدراك صعوبة الشهور الستة القادمة، والتي ستشهد على الأرجح، من الناحية الاقتصادية على الأقل، ما لم تشهده البلاد من قبل، في أحلك لحظات تاريخها.

المساهمون