دخلت الجزائر في سباق مع الزمن، بهدف تحرير حاجاتها للقمح من التبعية لفرنسا التي احتكرت توريد هذه السلعة المهمة لأكثر من عقدين، وتسير الحكومة على خطين متوازيين، الأول تنويع ممونيها بالقمح، والثاني محاولات لرفع إنتاجها المحلي.
وتنجح دائماً باريس في الفوز بالمناقصات التي تطرحها الجزائر لشراء القمح، وفق بيانات رسمية للجانبين، إذ تعتبر الجزائر حتى الآن أول مستورد للقمح الفرنسي، إذ تتحصل تقريباً على نصف الكميات المصدرة من القمح الفرنسي خارج الاتحاد الأوروبي.
وحازت باريس 4 مناقصات لتصدير نحو 6 ملايين طن من القمح للجزائر في موسم 2017/ 2018، وفقاً للأرقام الفرنسية الرسمية، في حين تقاسمت كل من كندا والولايات المتحدة الأميركية الحصة الباقية من القمح المستورد بـ3 ملايين طن للأولى ومليوني طن للثانية، بفاتورة إجمالية لما تم استيراده من قمح فاقت 2.2 مليار دولار سنة 2018.
وحسب تقارير رسمية، تقدر حاجات الجزائر من القمح بأنواعه بنحو 15 مليون طن سنوياً، في حين استوردت قرابة 11 مليون طن في 2018، ما جعلها من أكبر المستوردين عالمياً.
ويرى الخبير الاقتصادي، جمال نور الدين، أن "احتكار فرنسا لحصة الأسد في تموين الجزائر بالقمح يرجع بالأساس إلى سببين، الأول تاريخي متعلق بعلاقات البلدين منذ 1830، أي منذ احتلال فرنسا للجزائر، ومن ثم نحن أمام تبعية متواصلة بين المُستعمر والمستعمِر، أما السبب الثاني فتقني لكنه ناتج طبيعي عن السبب الأول، فدفتر الأعباء الذي تطرحه الجزائر في أغلب مناقصاتها العالمية لشراء القمح يكون مفصلاً على مقاس القمح الفرنسي من حيث النوعية وكمية الغبار وسعر النقل".
وأضاف نور الدين لـ "العربي الجديد" أن "ربط مصير قوت شعب كامل بدولة واحدة خطأ استراتيجي وقعت فيه الحكومات المتعاقبة، وخاصة في العشرين سنة الماضية، فالتبعية لفرنسا في العديد من الملفات الاقتصادية والتجارية أضعفت القرار السياسي".
تنويع المصادر
أشعلت حاجة الجزائر لاستيراد كميات ضخمة من القمح، سباقاً بين الدول المنتجة للقمح عالمياً، ودخلت روسيا نهاية السنة الماضية هذا السباق بقوة للفوز بأولى العقود لسنة 2019، والتحقت بها الأرجنتين مطلع السنة الحالية، بعدما قررت الجزائر تنويع مصادر استيراد القمح بنوعيه اللين والصلب، بعدما كانت فرنسا تسيطر على حصة الأسد وتمثل الممون الرئيسي للجزائر، لتتوجه شرقاً نحو روسيا التي قدمت عروضاً مغرية لها.
وفي مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2018، أرسلت الجزائر وفداً من الخبراء الزراعيين إلى روسيا، مهمته دراسة القمح الروسي من حيث النوع والسعر.
وتعليقاً على هذا التحرك، قال كمال فرناح مدير مركزي في وزارة الزراعة الجزائرية لـ"العربي الجديد"، إن "الوفد لم يكتف بدراسة نوعية القمح، بل أخذ بالاعتبار ظروف التخزين والشحن والنقل، لأنها عوامل مؤثرة في النوعية والسعر".
وأضاف المسؤول بوزارة الزراعة، أن "الوفد ضم ممثلين عن وزارة الزراعة والديوان الجزائري للحبوب، بالإضافة إلى خبراء زراعيين، بهدف الحصول على عينات من القمح الروسي، وإخضاعها لتحاليل تتعلق بنسبة الشوائب والغبار ومقاومة الرطوبة".
وذكر فرناح أن هذه الخطوة قام بها "الديوان الجزائري للحبوب المكلف باستيراد القمح، من أجل تنويع ممونيه الذين تتصدر فرنسا قائمتهم، فمن حق الديوان أن يبحث عن سوق أكثر تنافسية، لأن ربط حاجتك من أي مادّة مهما كانت في ممون واحد، يجعلك "أسير" هذا الممون".
تخوف فرنسي
وأخذت فرنسا خطوة الجزائر نحو تنويع مصادر استيراد القمح بجدية كبيرة، فسارعت للاستفسار عن طريق سفارتها بالجزائر حول دخول روسيا هذا المجال، وتلقت ضمانات من وزارة الزراعة الجزائرية، بأن الحكومة تحترم العقود المبرمة بين الطرفين.
وفي الخامس من يناير/ كانون الثاني الحالي، أرجأت الجزائر اقتناء شحنة قمح لين قادمة من الأرجنتين لعدم جودتها، مؤكدة أن الشحنة "أقل من معايير الجودة التعاقدية"، وفقاً لما ذكرته وكالة "ArgenTrigo" عن الغرفة الأرجنتينية للقمح.
وأوضح الجانب الأرجنتيني أن هذا الرفض "حالة معزولة"، وتم شحن القمح من قبل الشركة الصينية COFCO المتخصصة في نقل الحبوب، وحسب صحف أرجنتينية فإن القمح المُصدر للجزائر تساقطت عليه كميات كبيرة من الأمطار مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول.
وحسب الخبير الزراعي محيي الدين نواري لـ"العربي الجديد"، فإن "تغيير أو تنويع الممونين يتطلب في الحقيقة تعديل دفتر الشروط المنظم لعملية استيراد القمح، الذي يعطي أسبقية للقمح الفرنسي، وخاصة في ما يتعلق بنسبة الشوائب والغبار، إذ تشترط الجزائر أن تتعدى نسبتها 0.10 بالمئة ونسبة قريبة للنسبة الفرنسية المقدرة بنحو 0.15 بالمئة مقابل 0.50 إلى 0.70 بالمئة في القمح الروسي، ومن ثم فقضية تنظيف القمح هي لصالح الفرنسيين".
وكشف نفس المتحدث، أن "الجزائر استوردت السنة الماضية القمح الروسي استثناءً، بعد عجز الممونين الفرنسيين والكنديين عن تغطية طلب جزائري مستعجل فرضه شح الأمطار وضعف المحاصيل الداخلية".
ويرى الخبير الجزائري أن "النقطة التي يمكن أن تغري الجزائريين هي نقطة السعر، فطن القمح الروسي أقل بنحو 20 دولاراً من نفس الكمية من القمح الفرنسي، أي بين 8 إلى 10 بالمئة من السعر العام، كما أن النقل يعتبر نقطة أخرى يمكن أن يلعب عليها الروس، لأن الحكومة الروسية تدعم عمليات التصدير عكس الحكومة الفرنسية".
رفع الإنتاج
ونجحت الجزائر في تسجيل رقم قياسي في إنتاج القمح سنة 2018 بلغ 60.5 مليون قنطار من القمح (6 ملايين طن)، بمساحة مروية تقدر بـ200 ألف هكتار، حسب أرقام وزارة الزراعة الجزائرية، مقابل 3.5 ملايين طن السنة ما قبل الماضية و3.4 ملايين طن سنة 2016.
وحسب أمين عام اتحاد المزارعين الجزائريين محمد عليوي، فإن "الحكومة الجزائرية ومنذ بداية الأزمة المالية، بدأت تفكر في كبح الواردات، وخاصّة في الموادّ الزراعية وتحويل الأموال الموفرة من هذه العملية، إلى دعم المزارعين، وشعبة القمح من أول أهداف السلطات الجزائرية".
وأضاف عليوي لـ"العربي الجديد"، أن "الحكومة الجزائرية تُسهل منح الأراضي للمستثمرين، كما دعمت السنة الماضية عمليات الريّ والسقي ما ساعد في توسيع الأراضي المزروعة، ورفع الإنتاج".
إلا أن الأمين العام لأكبر تكتل لمزارعي الجزائر، حذّر "من بعض محاولات إجهاض هذه العملية من طرف بعض الانتهازيين ومحتكري السوق الداخلية، الذين لا يخدمهم ارتفاع العرض الداخلي".