دعونا نلخص بنظرة اقتصادية كلية الآثار المتوقعة لسياسة الرئيس المنتخب دونالد ترامب على الاقتصاد الأميركي. ومن ثَمَّ نسعى لقراءة آثار تلك الآثار الأميركية على الاقتصاد العالمي وبعض الاقتصادات العربية.
وحسب ما يتناوله الخبراء الاقتصاديون سواء من يعمل من هؤلاء أساتذة في كبار الجامعات، أو مستشارين في كبار المؤسسات الاقتصادية العالمية، وبحسب ما أعلنه الرئيس ترامب نفسه إبان حملته الانتخابية، دعونا نرَ ما الحصيلة التي سنخرج بها. أولاً: إن سياسة ترامب تدعو إلى التخلص من العمالة غير الشرعية التي تسللت إلى الولايات المتحدة، وإلى فكرة الحد من تلك الهجرة. والهدف من ذلك هو توفير فرص العمل للأميركيين.
ولقد كان من أسباب نجاح سياسة الرئيس بايدن للحد من معدلات التضخم في سوق العمل هو فتح باب الهجرة، مما وضع سقفاً على ارتفاع الأجور في الوقت الذي نادت فيه نقابات العمال بضرورة رفعها، لأن مستوى تكاليف المعيشة الذي ارتفع إبان فترة كوفيد-19 ومن بعدها حرب أوكرانيا، أضر بالعمال.
ولذلك فإن سياسة ترامب بمنع الهجرة ستؤدي حُكماً إلى رفع الأجور، وزيادة كلف الإنتاج على الاقتصاد الأميركي. وهذه ستشكل ضغطاً مقصوداً على مستوى الأسعار. ثانياً: أما بالنسبة للموازنة، فإن الرئيس الأميركي المنتخب يريد أن يحفز الاقتصاد عن طريق برنامج موسع لخفض الضرائب على أرباح الشركات بنسبة قد تصل إلى عشر نقاط مئوية. وأن يمنح الشركات التي تقرر إعادة مصانعها إلى الولايات المتحدة خفضاً بنسبة تصل إلى 15%.
ويريد كذلك إلغاء الضرائب على مصادر الدخل غير الأساسية مثل الوقت الإضافي والبقشيش وغيرها. وحتى يعوض بعضاً من هذه الخسائر، فسيقوم برفع نسبة الجمارك على المستوردات من الصين بنسب قد تصل إلى 60%، ومن أوروبا بنسب ما بين 10% و20%، ومن المكسيك إن لم تتجاوب مع متطلباته والتعاون معه في منع الهجرة غير المشروعة بنسبة يهدد أن يوصلها إلى 100%.
وإذا قيّمنا مقدار الإيرادات التي ستخسرها الحكومة بسبب إعفاءاته الضريبية (على الدخل والأرباح) فإنها ستفوق كثيراً مقدار الإيرادات التي سيكسبها من رفع التعرفة الجمركية على المستوردات. والأهم من ذلك أن الأغنياء هم الذين سيحصلون على النصيب الأوفر من الإعفاءات مقابل الإعفاءات على الوقت الإضافي والبقشيش والتي لا يخضع معظم أصحابها للضريبة المباشرة أصلاً، أو أنهم يدفعون نسباً منخفضة، مما يجعل فائدتهم من التخفيضات المقترحة قليلة.
ويقول الاقتصاديون إن هذه السياسات ربما تساهم في زيادة فرص العمل داخل الولايات المتحدة، ولكنها كلها تعتمد على سياسة "التمويل بالعجز في الموازنة"، أو ما يسمى باللغة الإنجليزية (Deficit Financing)، والذي يحقق الفوائد في المدى القصير لدولة تطبع العملة متى تشاء. ولكن في المدى الطويل فإن هذه السياسة تضخمية.
وهكذا فإن الفوائد التي ستجنيها الشركات الإنتاجية من هذه السياسات ستملي مستقبلاً على البنك الفيدرالي الاحتياطي رفع أسعار الفائدة، مما يسبب خسائر للمستثمرين في الأسواق المالية والبورصات، مثل البنوك، والشركات المالية، وصناديق التحوط، أو ما يسمى Hedge Funds ولذلك، فإن التضخم وضغوطه سوف تزداد.
ثالثاً: من أجل التحكم في أسعار النفط، سيقوم الرئيس الأميركي المنتخب بالسماح بمد الأنابيب والتوسع في الاستكشاف واستخراج النفط الذي اعتبر متناقضاً مع الاتفاقات البيئية والمناخية التي قام الرئيس بعدم المشاركة فيها أو بالخروج منها.
فهل سيقوم في الوقت نفسه بالتقليل من الاستيراد، أم بالدخول مصدراً للنفط؟ ولكنه في المقابل، يريد أن يفرض عقوبات اقتصادية إضافية على إيران وفنزويلا وصادراتهما النفطية، وربما على روسيا، ما قد يكون له أثر على رفع سعر النفط من ناحية، وزيادة التهريب للنفط من هذه الدول. وإذا تماسكت مجموعة (OPEC+) وقللت إنتاجها، فسيؤدي ذلك إلى زيادة أسعار النفط داخل الولايات المتحدة وخارجها.
رابعاً: إذا كانت الضغوط الناجمة عن عجز الموازنة وسوق العمل، وأسواق المال تشد الأمور نحو مزيد من التضخم الناتج عن زيادة التكاليف وارتفاع الطلب في المدى القصير داخل السوق الحقيقي (السلع والخدمات) فإن المواطن الأميركي سيلمس هذه الآثار التضخمية، ولكنه في العام الأول قد لا يجد أنها مرتفعة إلا إذا أحدثت بعض الخلل في الأداء الاقتصادي. ويرصد بعض الاقتصاديين الخلل الممكن في الأمور التالية:
أولاً: إن ارتفاع الأجور قد يجعل الرغبة لدى المنتجين أعلى باتجاه استخدام الذكاء الاصطناعي، ما سيخلق طلباً على بعض المهن الحقيقية عالية المستوى، ولكنه سيحدث إخلالاً مكان العمالة الإنسانية Automation، أو استبدال الإنسان بالروبوتس. ثانياً: إن نجاح السياسة الأميركية الجديدة، خاصة المالية، يعتمد إلى حد كبير على نجاح السياسة النقدية في الحفاظ على سعر تبادل الدولار قوياً بفعل قوة الطلب عليه، إما للتبادل، أو كمخزون آمن للقيمة.
ولكن إذا بدأت بعض الدول تدريجياً بالتخوف من أن سياسات ترامب قد تؤدي إلى رفع نسبة التضخم. وحتى إن بعض الاقتصاديين يخشون من عودة ظاهرة الكساد التضخمي، كما حصل بعد رفع أسعار النفط في سبعينيات القرن الماضي. أقول إن بعض الدول، والحالة هذه، ستركز أكثر على البحث عن ملاذات استثمارية آمنة كالذهب.
وبعض الدول بدأت تتخلى في تعاملاتها عن استخدام الدولار مقياساً للقيمة، أو وسيلة للتبادل وتسديد الالتزامات. إذا بدأ الشك يتغلغل في صمود الدولار، فإن هذا سيؤدي إلى خلخلة كبيرة في قدرة الولايات المتحدة على تبني سياسة التوسع في الدين العام، وإلى نجاعة سياساتها في استخدام التمويل بالعجز لتصحيح الاقتصاد أو إعادة هيكلته.
ثالثاً: إن الاحتمالية من أن تحصل مواجهة بين إدارة الرئيس ترامب القادمة ورغبتها في إبقاء سعر الفائدة متدنياً ربما تصطدم بإصرار بنك الاحتياط الفيدرالي على استخدام سعر الفائدة وسيلة ناجعة للحد من التضخم.
في هذه الحالة، فإن مثل هذا الصراع والتناقض بين السياسة المالية والسياسة النقدية ستزداد وتيرته حدة، وقد تثير الفزع لدى المستثمرين، وخاصة صناديق التقاعد، التي تشكّل أحد المصادر الأساسية للاستثمار في الأسواق المالية. الوضع الذي قدمه الاقتصادي البريطاني بول اورميرود في كتابه موت الاقتصاد أو The Death of Economics المنشور عام 1994 يصف الحالة التي ستؤول إليها الأمور لو طبقت سياسات الرئيس ترامب بحذافيرها، وبدون معارضة، وهي أن النموذج الرأسمالي المنسوخ عن أفكار الاقتصادي المحافظ (النيو كلاسيكي)، ميلتون فريدمان، ومدرسة شيكاغو الاقتصادية، والتي يتبناها الرئيس ترامب سيحدث خللاً كبيراً في توزيع الثروة، والدخل في العالم وإلى تراجع الطبقة المتوسطة، وارتفاع نسب الجريمة والفقر والبطالة.
ولكن هناك من يقول إن الرجل يساوم، وإن بعض الاقتصاديين المحافظين المقربين منه لن يدعوه عند التطبيق يمارس كامل حريته في تنفيذ سياساته بحذافيرها، كما وعد في حملته الانتخابية. والسبب هو أن برنامجه في استعادة عظمة أميركا، أو ما سمي بحركة (MAGA) يريد زيادة الإنتاج، والاعتماد على الذات، وبناء القوة، والتفوق على الأعداء، والميل للانعزالية، وهذه ستؤدي إلى تراجع الأسواق المالية، والاستثمار في الأسهم والبورصات التكنولوجية. وكلا الجانبين (الأسهم والبورصات والقطاع المالي من ناحية والشركات الصناعية والنفطية والدفاعية من ناحية أخرى) قد تتصادم مصالحهما، علماً أن كليهما دعم الرئيس ترامب، مما سيفرض عليه أن يقلل من اندفاعه لتطبيق السياسات التي دعا إليها، وتجعله في موقف المساوم سعياً للتوفيق بين الطرفين.
أما الدول الخليجية العربية فلها تناقضات مع الرئيس ترامب من حيث سياساته النفطية التي قد يضغط عليها ليبقي أسعار النفط منخفضة، مما سيؤثر في برامجها في التنويع الاقتصادي، والانطلاق نحو مرحلة ما بعد النفط. والثانية هي رغبته ولربما ضغوطه على الدول الخليجية، لكي تقلل من تعاملاتها وتنسيقها مع كل من روسيا العضو الرئيسي بتحالف (أوبك+)، والصين أكبر شريك تجاري لهذه الدول، ولذا فالأمر يقتضي الانتباه. أما بالنسبة للدول الحليفة لأميركا والمصدرة لها والمستفيدة من مساعداتها الخارجية واتفاقات التجارة الحرة معها، فستبقى مستعدة للتعاون مع الولايات المتحدة، شريطة ألا يقلل من المساعدات أو أن يرفع التعرفة الجمركية على صادراتها إلى أميركا.
وأهم هذه الدول هي الأردن، والمغرب وإلى حد أقل مصر. ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح: هل سيضغط الرئيس ترامب واقتصاديوه ووزراؤه على مؤسسات اقتصادية مالية دولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لكي يغيرا النموذج الاقتصادي المطبق حالياً، وهو الأقرب للنموذج الكينزي، واستبداله بنموذج ميلتون فريدمان الذي يدعو لتقليل دور الحكومات وحجمها، وخفض الضرائب والتقليل من التدخل في عمل الأسواق؟ هذه بعض التحديات. والأيام ستكشف إلى أين الأمور ستؤول. والمهم هل يستطيع ترامب إنهاء الحروب كما وعد وبأي ثمن، وبالضغط على من؟