بعد أن تراجعت المعارك العسكرية وخفت صوت الرصاص في ليبيا ينتظر آلاف الشباب الذين حملوا السلاح فرصاً حقيقية للتحول إلى ساحة الأنشطة الاقتصادية من أجل البحث عن مصدر رزق بدلاً من ساحات الموت والحروب والخراب.
وبالفعل طرحت حكومة الوحدة الوطنية مشروعاً جديداً في هذا الاتجاه، إذ تستهدف في المرحلة الأولى له من استيعاب 60 ألف فرد لتدريبهم وتأهيلهم للعمل بالعديد من القطاعات. وفي الوقت الذي لاقى فيه هذا التوجه ترحيبا من الأوساط الاقتصادية، حذّر البعض من العقبات التي تواجه هذا المشروع والتي قد تعرقل تنفيذه وخاصة في ظل استمرار الخلافات السياسية وسعي بعض المليشيات إلى تعزيز نفوذها، بالإضافة إلى تذبذب إنتاج النفط المصدر الرئيسي للدخل في البلاد.
تأهيل وإدماج الشباب
كان رئيس حكومة الوحدة الوطنيّة، عبد الحميد الدبيبة، أعلن مؤخراً، في العاصمة الليبية طرابلس إطلاق المشروع الوطنيّ للتّأهيل وإعادة الإدماج الذي تنظّمه وزارة العمل والتأهيل، تحت شعار "بالتأهيل والعمل نساهم في عودة الحياة" والذي يستهدف إدماج الشباب المنضوين تحت التشكيلات المسلّحة والراغبين في الالتحاق بمؤسّسات الدولة والعمل في مختلف الأنشطة الإنتاجية.
وأوضح الدّبيبة عبر كلمة له أنّ حكومته في خضمّ تقديم أفضل البرامج الشبابيّة في ظلّ سعيها لتحقيق ضمان مستقبل زاهر لكل شرائح المجتمع.
وأنفقت حكومة الوحدة الوطنيّة في ليبيا على "مشروعات عودة الحياة" 7.9 مليارات دينار (نحو 1.76 مليار دولار)، أي ما يعادل 52% من إجماليّ مخصّصات التنمية في الموازنة المقترحة لعام 2021. وتشمل مشروعات عودة الحياة الطرق والملاعب الرياضيّة، بالإضافة إلى مشروعات الطاقة الكهربائيّة، والمركبات الجامعيّة وإنشاء مصفاة لتكرير النّفط ومصنع لغاز الطهو في الجنوب الليبي.
استهداف جذب جميع العسكريين
على خلفية إطلاق مشروع تأهيل المسلّحين قال وزير العمل الليبي، على العابد، في تصريحات لـ"العربي الجديد" إن "المشروع دعوة إلى ترك السلاح والالتحاق ببرامج التأهيل والتدريب عبر مشروعات التنمية في البلاد"، مشيراً إلى أن الانطلاقة شملت جميع المدن بالبلاد حتى ما يعرف بالقيادة العامة، في إشارة لقوّات اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
وأوضح أن المشروع في الخطوة الأولى سيستوعب على 60 ألف عنصر للتأهيل عبر خطّة تدريبه، وأن هناك خطوات أخرى سيتمّ الإعلان عنها في حينها.
وكشف ديوان المحاسبة الليبيّ، ومقرّه العاصمة طرابلس، أن عدد المسلّحين الذين يتقاضون رواتب، رسميّا حسب الرقم الوطنيّ، خلال العام الماضي، يبلغ 550 ألف فرد منتسب تسلّموا أجورا بلغت 3.5 مليارات دينار (الدولار يساوي 4.48 دينار) العام الماضي، وتبلغ القوى العموميّة لدى وزارة الداخليّة 284 ألف عنصر، فيما تبلغ القوى العاملة لدى وزارة الدّفاع 266 ألف عنصر.
ويبلغ الحد الأدنى لأجور العسكريين ما يعادل نحو 420 دولاراً للفرد، وفق تقديرات سابقة لوزارة الدفاع. وتبقى أرقام رواتب مسلحي قوات حفتر غامضة في ظل عدم إدراجها في الميزانية.
وأكد عضو اللجنة العسكرية الليبية 5 + 5، الهادي الفلاح، لـ"العربي الجديد" إن ليبيا لا تمتلك رقما دقيقا بشأن إجمالي حجم الإنفاق العسكري.
لكن حسب الاتفاق المعلن بين نائب المجلس الرئاسي أحمد معيتيق وحفتر، في سبتمبر/ أيلول 2019، بشأن إعادة تدفق النفط، بيّن أن حجم ديون حفتر المترتبة على حروبه بلغ 50 مليار دينار، أي 37 مليار دولار، حسب السعر الرسمي أنذاك.
وعن حجم التسليح كشف تقرير خبراء الأمم المتحدة، في فبراير/ شباط 2020، أنه يوجد في ليبيا 29 مليون قطعة سلاح، وهو رقم يتجاوز ترسانة الرئيس الراحل معمر القذافي التي تركها.
تفاؤل وعقبات
يتفاءل المحلّل الاقتصادي، بوبكر الهادي، بهذه الخطّة التي اتخذتها الحكومة، قائلاً لـ"العربي الجديد" إنّ الحكومات تأخّرت كثيرا في تأهيل المسلّحين ودمجهم في مؤسّسات الدولة أو إيجاد فرص عمل عبر مشاريع استثمارية.
أضاف الهادي أن المشروع يسهم بشكل تدريجيّ في القضاء على المجموعات المسلّحة ومن ثمّة تأسيس نّواة جيش وطنيّ بعد حروب وانقسام وعدم الاستقرار.
في مقابل هذا التفاؤل، توجد العديد من العوائق أمام مشروع إدماج المسلحين في الحياة الاقتصادية، ومنها الخلافات داخل برلمان ليبيا، كما أنّ حكومة الوحدة الوطنيّة بطرابلس لا تملك جيشا تفرض به الأمن وإرادتها، ولم يتم حتى الآن وضع دستور جديد.
في هذا السياق، يرى المحلّل الاقتصادي، رمضان عميش، أنّ إقناع المسلّحين بإلقاء السلاح أشبه بالسير على حقل من الألغام، لأنّ جلّ المجموعات المسلّحة تنضوي شكليّا تحت الدولة ولها شرعية بمسمّيات حكومية مختلفة، إضافة إلى مصروفات ماليّة كرواتب ونفقات تشغيلية وغير ذلك من الأصول الثابتة والمنقولة.
وأشار عميش إلى أن جماعات مسلّحة قويّة، لا تتفق مع بعضها، وما زالت الخلافات تدب بينها، ما يبقي على استمرار هذه المجموعات المسلحة في السعي للحفاظ على مكاسبها وتعزيز نفوذها على الأرض.
وأكّد المحلل الاقتصادي، أن موازنة 2021 بها مخصّصات ماليّة كنفقات تشغيلية لمجموعات مسلحة بطرابلس فقط تناهز 100 مليون دينار (الدولار = 4.48 دنانير).
وأشار مراقبون إلى عدد من العقبات الأخرى أمام مشروع تأهيل المسلّحين ومنها ضعف الإيرادات المالية. وقال عادل القماطي، أحد أفراد التشكيلات المسلّحة بطرابلس، لـ"العربي الجديد" إنّه انخرط عبر المجموعات المسلّحة لأنه لم يتحصّل على فرصة عمل.
وأضاف القماطي أنّه خرّيج كلّية اللغات قسم اللغة الفرنسيّة وينتظر البداية للمشروع لترك السلاح والبزّة العسكريّة.
وأشاد فوزي بن سعيد، أحد قادة التشكيلات المسلّحة، بفكرة مشروع إعادة الإدماج وتكرار تجربة سابقة سنة 2012 عبر هيئة المحاربين، وهي خطوة للعمل وإقامة مشاريع لصالح الاقتصاد الوطنيّ.
مسلحون جدُداً وخسائر جسيمة
وفي الوقت الذي تسعى فيه الحكومة إلى تغيير مسار المسلحين وإدماجهم في مؤسسات الدولة والأنشطة الاقتصادية، أكّد ديوان المحاسبة، أنّ هناك استمرارًا في إبرام العقود بشأن انضمام أفراد جدد إلى المسلحين على الرغم من الزيادة الكبيرة في عدد عقود العمل الموقّعة خلال الأعوام الماضية.
وحسب بيانات غير رسمية، يصرف نحو 2.5 مليار دينار سنويّا رواتب لقوّات يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في شرق البلاد، وتسمّي نفسها عمليّة الكرامة ولا يوجد عدد دقيق بشأن عدد مسلحيها، والبيانات على ذمّة تقارير وزارة الماليّة بالحكومة الموازية للعام الماضي.
وحسب تقديرات مراقبين وتقارير غربية، يقدر إجمالي عدد قوات حفتر بما يفوق 50 ألف عسكري.
وتسببت الحرب ليس فقط في تحول مسار مئات الآلاف من الليبيين إلى حمل السلاح بدلا من بناء وطنهم، وإنما تسببت أيضاً في عمليات تخريب واسعة بالبلاد وخسائر جسيمة للاقتصاد الوطني، ودفعت إلى تمويل الميزانيات العامة للسنوات الأخيرة بالعجز، من خلال الاقتراض من المصرف المركزي، ما تسبب في نزيف كبير للاحتياطي النقدي.
وقدرت خسائر الحرب منذ عام 2011 وفق تقارير رسمية سابقة، لـ"إسكوا"، وهي إحدى اللجان الإقليمية الخمس التابعة للأمم المتحدة، بحوالي 576 مليار دولار.
وطاول الصراع قطاع النفط الذي تعتمد عليه الدولة بنحو 90% من مواردها حيث دمر جزءا كبيرا من بنيته التحتية، الأمر الذي فاقم من الصعوبات المالية والاقتصادية للبلاد.
وذكرت مصادر من إدارة التسويق في المؤسّسة الوطنيّة للنفط في ليبيا، لـ"العربي الجديد"، أن إنتاج ليبيا من النفط تراجع، يوم الخميس، إلى مليون برميل يوميّاً، وقد يستمر إلى الأسبوع الأوّل من شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وذلك نتيجة تهالك المرافق السطحيّة لميناء السدرة، وعدم تسييل الأموال الكافية للصيانة.
وكانت المؤسسة الوطنية للنفط قد أعلنت، مساء يوم الأربعاء، عن انخفاض إنتاجها من خام السدرة. وأوضحت، في بيان لها، أنها فقدت نحو 208 آلاف برميل يوميّاً من أصل 285 ألف برميل من الطاقة المتاحة، مع توقع أن يستمرّ الانخفاض لمدّة عشرة أيام ممّا يفقد الخزانة العامّة نحو 177 مليون دولار.