هل حان الوقت لوقف زيادات سعر الفائدة المصرفية وما هي المخاطر؟

29 سبتمبر 2023
وول ستريت متوجسة من زيادة الفائدة على الدولار (Getty)
+ الخط -

تواصل البنوك المركزية الكبرى سياسة التشدد النقدي ورفع سعر الفائدة، وعلى الرغم من تثبيت مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) وبنك إنكلترا أسعار الفائدة على الدولار والجنيه الإسترليني، إلا أن هناك توقعات بعودة تلك البنوك لسياسة الرفع حتى نهاية العام الجاري على الأقل، على أن يحدث خفض تدريجي خلال عامي 2024 و2025.

ووفق بنوك استثمار عالمية وخبراء، فإن استمرار البنوك المركزية في زيادات الفائدة المصرفية قد يقود إلى مخاطرعديدة على الاقتصادات العالمية، على رأسها الركود الاقتصادي وتدهور القطاع العقاري، وربما إلى أزمة مصرفية وضغوط جديدة على أسواق المال والبورصات دون ضمان لنهاية موجة التضخم الحالية، والتي زادت ضراوة عقب اندلاع حرب أوكرانيا.

ويحذر اقتصاديون من التداعيات السلبية لمواصلة البنوك المركزية العالمية زيادة الفائدة المصرفية على الاقتصاد العالمي الذي يعيش حالة كبيرة من الهشاشة في الوقت الراهن، خاصة في أوروبا والصين وتركيا والعديد من الدول الناشئة.

ويشيرون في تحذيراتهم إلى مخاوف من أن تؤدي الفائدة المرتفعة إلى الركود أو حتى الركود التضخمي في بعض الاقتصادات، وحدوث أزمة في عوائد السندات. كما أن هنالك مخاوف من تداعيات مواصلة الفائدة المرتفعة على أسواق المال العالمية والمصارف التجارية.

في هذا الصدد، يرى الاقتصادي والعضو المنتدب ورئيس أبحاث الاقتصاد الأميركي في مصرف "بنك أوف أميركا"، مايكل غابن، أن مواصلة الفائدة المرتفعة يمكن أن تؤدي إلى الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة، وتقود إلى الركود التضخمي في أوروبا.

وارتفعت المخاوف من زيادة بنك الاحتياط الفيدرالي سعر الفائدة على ارتفاع سعر الدولار إلى أعلى من مستواه الحالي، وبالتالي ضرب الاقتصادات الناشئة التي راكمت حجماً من الديون بالعملات الصعبة مثل تركيا ومصر ودول آسيا.

لكنه في المقابل يستبعد أن يتم القضاء على التضخم عبر آلية زيادة سعر الفائدة، ما لم يتم حل أزمة اختناقات سلاسل التوريد أو تخفيف المشكلات الجيوسياسية في أوكرانيا. ويقول إنه "حتى ذلك الحين، قد يظل المستهلكون عالقين في دفع المزيد من الفواتير المرتفعة للغاز والوقود والغذاء والسيارات".

ويضيف غابن أن زيادة سعر الفائدة ربما تخفض بدرجة محدودة التضخم، ولكنها ربما لن تنهي وحدها التضخم، لأن دورة التضخم الحالية تختلف عن الدورات السابقة، إذ إن هنالك أسبابا ومخاطر جيوسياسية استجدت على الاقتصاد العالمي.

وفي ذات الصدد، يشير تحليل لبنك إنكلترا المركزي على موقعه الإلكتروني، إلى أن التضخم المرتفع الذي يعاني منه العالم منذ العام الماضي يختلف عن التضخم الذي كانت تعانيه الاقتصادات في الماضي، لأنه يعود إلى قلة المعروض من السلع والخدمات، وسط وجود طلب استهلاكي كبير عليها.

ويضيف أن هنالك عوامل خارجة عن نطاق السياسة النقدية التي تطبقها البنوك المركزية، إذ إن جزءا كبيرا من التضخم حدث نتيجة لارتفاع أسعار الوقود والغذاء بسبب الحرب الأوكرانية، كما أنه يعود كذلك إلى ارتفاع الطلب الاستهلاكي على السلع والخدمات بعد فترة إغلاق الاقتصادات العالمية خلال جائحة كورونا.

وبالتالي يرى التحليل أنه من الصعب السيطرة على التضخم عبر السياسة النقدية وحدها. وعادة ما تعمل الفائدة المرتفعة أو "إعادة تسعير النقود"، على سحب السيولة من السوق، وبالتالي خفض الإنفاق الاستهلاكي.
في ذات الشأن، يعدد الاقتصادي غابن مخاطر مواصلة زيادة الفائدة قائلا: "إذا كانت الزيادة تبطئ الطلب، فمن المحتمل أن تبطئ التوظيف أيضاً، وقد تكون هناك عمليات تسريح للعمال، مما قد يؤدي إلى ارتفاع معدل البطالة، وبالتالي يهدد الاقتصاد بأكمله".

بعبارة أخرى يمكن القول إنه "عندما يزيد بنك الاحتياط الفيدرالي أسعار الفائدة، فإنه يقلل من الطلب على السلع والخدمات، وهو ما قد يؤدي إلى قيام الشركات بتوظيف أقل أو تسريح عمالها، وبالتالي يؤدي ذلك إلى الركود الاقتصادي الذي يخشى منه الكثيرون".

على صعيد القروض العقارية المرتفعة بالفعل حالياً، يمكن أن يؤدي استمرار البنوك في رفع الفائدة إلى زيادة حالات الإفلاس في دول مثل بريطانيا وحتى في بعض المدن الأميركية، وربما سيتعين على بنك إنكلترا أن يتحرك بحذر لضمان أن محاولات خفض التضخم بشكل أكبر لن تؤدي إلى توقف الاقتصاد.

ويلاحظ أن بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي لديه مساحة وهامش مناورة أكبر من البنك المركزي البريطاني، لأن الولايات المتحدة شهدت انخفاضاً كبيراً في التضخم مقارنة بأوروبا. ويقف التضخم الأميركي حالياً على قدم المساواة تقريباً مع اليابان، التي لم ترفع أسعار الفائدة.

وهناك سبب آخر لتحذير البنوك المركزية من الاستمرار في زيادة الفائدة، وهو ضعف توقعات سوق العمل. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تباطأ نمو الأجور بشكل كبير وانخفضت الوظائف الشاغرة بسبب رفع سعر الفائدة السريع. ويعني ذلك حدوث تشوهات، منها أن الشركات ستكون أقل حاجة لاستخدام الأجور المرتفعة لجذب موظفين جدد، كما أن انخفاض نمو الأجور يترك لدى الناس أموالاً أقل لإنفاقها.

ويقول اقتصاديون إن استخدام رفع أسعار الفائدة لإبطاء التضخم يشكل عملية موازنة صعبة، لأنه يتسبب بخنق الاقتصادات، كما يؤثر كذلك سلباً على السندات، خاصة سندات الخزانة الأميركية التي تستثمر فيها معظم الشركات الكبرى والدول. وعادة عندما يكون هناك ارتفاع كبير في الطلب على السندات الحكومية طويلة الأجل مقابل السندات قصيرة الأجل يحدث الركود الاقتصادي.

تأثير الزيادة على القطاع المصرفي

على صعيد تداعيات الفائدة المرتفعة على البنوك، يرى تحليل لصندوق النقد الدولي، أن الزيادات التي أقرتها البنوك المركزية العالمية في أسعار الفائدة لاحتواء أكبر معدل للتضخم في أربعة عقود من الزمان، كانت سبباً في خلق ضغوط على البنوك في الولايات المتحدة وأوروبا هذا العام.

وعلى الرغم من أن أسعار الفائدة المرتفعة عادة ما تكون أمراً إيجابياً بشكل عام بالنسبة للبنوك، إذ إنها تمكنها من تحقيق أرباح أكبر من القروض الممنوحة للعملاء، مقارنة بما تدفعه للمودعين، ولكن هذه المرة كان الأمر مختلفاً، إذ خسرت بعض البنوك الأموال بسبب حيازاتها من السندات الحكومية، وخسرت حتى جزءا من عوائد استثماراتها في سندات الخزانة الأميركية الآمنة.

وقد أثارت هذه الخسائر قلق بعض المودعين الذين سحبوا بسرعة إيداعاتهم من البنوك الضعيفة والصغيرة، مما أدى إلى انهيار عدد من البنوك في الولايات المتحدة.

ويرى تحليل الصندوق أن الزيادات المستمرة في أسعار فائدة البنوك المركزية، واحتمال أن تظل تكاليف الاقتراض أعلى لفترة أطول مما يتوقعه المستثمرون والشركات والأسر، قد يؤدي إلى زيادة المخاطر على الاستقرار المالي ويؤثر على النمو الاقتصادي العالمي.

التداعيات على أسواق المال والبورصات

على صعيد أسواق المال، يقول بحث كتبه كل من الاقتصادي الياباني، هيروكو أوراو والاقتصادي الأوروبي توبياس أدرايانا، إن التشديد السريع للسياسة النقدية ربما يؤدي إلى تقلب أسواق السندات ومشتقات أسعار الفائدة، وحتى قيمة سندات الخزانة الأميركية الآمنة ربما تنخفض بما يصل إلى 30% عندما ترتفع العائدات بمقدار 400 نقطة أساس.

وفي حال حدوث ذلك، فإنه سيشكل صدمة فعلية لعائدات سندات الخزانة أجل 10 سنوات.
وعلى صعيد المخاطر الناجمة عن مواصلة البنوك المركزية زيادة سعر الفائدة، يرى الخبيران أنها ستحدث تحولات في أسواق السندات للشركات المالية غير المصرفية.

ويلاحظ أن العديد من الصناديق المالية لديها استثمارات كبيرة في السندات وتعاني من خسائر التقييم. وبالتالي يمكن أن تواجه صناديق الاستثمار عمليات استرداد سريعة، حيث يمكن لعملائها الخروج بسرعة من الأموال غير المربحة.

وعلى صعيد الشركات التي تستخدم المشتقات المالية وغيرها من المعاملات المعقدة لتعزيز العائدات، فقد تعاني من تراجع عوائد الهوامش، حيث سيُطلب منها توفير النقد في حالة فقدان تلك الأدوات قيمتها، كما حدث لبعض صناديق التقاعد في بريطانيا العام الماضي، لدى الهزة التي شهدها الجنيه الإسترليني وسندات الخزينة البريطانية وكادت أن تودي بالعديد من الشركات إلى الإفلاس.

ويلاحظ محللون أنه بعد الأزمة المالية العالمية، أصبح بإمكان المصارف التجارية الآن الاقتراض بسهولة أكبر من البنوك المركزية، لتجنب بيع السندات في الأسواق المتدهورة وتكبد خسائر باهظة.

لكن على الرغم من ذلك، انخفضت قيمة الأصول المالية التي كانت تستثمرها المصارف في سندات الخزانة الأميركية بسبب التشديد النقدي السريع، مما أضر بالأرباح ورأس المال والاحتياطيات النقدية في القطاع المصرفي الأميركي، وكاد أن يُحدث ذلك أزمة مصرفية كبيرة في الولايات المتحدة، لولا تدخل مجلس الاحتياط الفيدرالي ومؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية وتهدئة المودعين عبر ضمان كامل وبنسبة 100% لأموالهم المودعة.

لذا، فإن مواصلة زيادات سعر الفائدة قد تقود إلى مخاطر كبيرة على الاقتصاد العالمي والأسواق من دون أن تخفض معدل التضخم، وسط الضغوط التضخمية الخارجة عن الحدود الجيوسياسية للدول.

المساهمون