لا تزال مجموعة بريكس تكتلاً فضفاضاً، رغم حجمها التجاري الضخم وثقل تحالف بكين ـ موسكو الجيوسياسي، ورغبة العديد من الدول الناشئة في الانضمام إليها بناء تكتل عالمي ونظام مالي ونقدي جديد يوازي التحالف الرأسمالي الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وبينما بدأت بريكس قمتها في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا أمس الثلاثاء لمدة ثلاثة أيام، يثار السؤال عما إذا كانت المجموعة تستطيع بناء نظام مالي وعملة موحدة تنافس الدولار؟
حتى الآن يستبعد العديد من خبراء المال والاقتصاد، أن تنجح المجموعة في الاتفاق على إنشاء عملة مشتركة أو نظام مالي جديد، حسبما وضعت في أجندتها.
على الصعيد السياسي، يوجد تناقض استراتيجي بين أعضائها،إذ هنالك عداء تاريخي بين الصين والهند، كما أن النمو الاقتصادي يعتمد على التصدير إلى الأسواق الأميركية، وكذلك لاتتوفر الثقة الكافية بين أعضائها مثلما هو الحال في أوروبا.
هنالك عقبات كؤود تعترض المجموعة الناشئة وتحول دون بناء نظام مالي موحد، أو بناء عملة واحدة لدولها، بسبب التباين في اقتصاداتها
وبالتالي هنالك عقبات كؤود تعترض المجموعة الناشئة وتحول دون بناء نظام مالي موحد، أو بناء عملة واحدة لدولها، بسبب التباين في اقتصاداتها.
في هذا الصدد، يقول الاقتصادي البريطاني، جيم أونيل، إن العلاقة غير الصحية بين الصين والهند هي أحد الأسباب الرئيسية وراء عدم احتمال التوصل إلى عملة مشتركة لمجموعة البريكس.
ويضيف: "يجب على الغرب أن يعمل على ألا تتفق الصين والهند أبداً على أي شيء، لأنهما إذا اتفقا على ذلك، فإن هيمنة الدولار ستكون أكثر عرضة للخطر".
من جانبه يقول أستاذ الاقتصاد بكلية هارفارد للأعمال، تارون خانا، إن التنافس بين الصين والهند ضخم وقديم للغاية، لدرجة أنه يتجاوز الاقتصاد في العديد من النواحي. وذلك في تحليل بمجلة هارفارد "بيزنس ريفيو".
على الصعيد الاقتصادي، وحسب محللين، تعاني اقتصادات دول بريكس من مجموعة من الاختلالات المالية الكبيرة. على سبيل المثال، جميع دول بريكس لديها فوائض في الحساب الجاري، وتتمتع بمعدلات ادخار محلية مرتفعة للغاية.
كذلك من المتوقع، أن تعتمد دول بريكس في إنشاء العملة الجديدة المقترحة على اليوان والثقل التجاري والاقتصادي للصين باعتبارها العمود الفقري لكتلة "بريكس".
ولكن توجد اختلافات كبيرة بين اقتصادات المجموعة من حيث التجارة، والنمو، والانفتاح المالي وعدم الإتفاق على قيادة الصين.
وفيما كان الأداء الاقتصادي لروسيا هو الأضعف بين دول بريكس الخمسة في العام الماضي، فقد كافحت البرازيل وجنوب أفريقيا لتحقيق الازدهار الاقتصادي، ولكن ذلك حدث بسبب أسعار السلع الأساسية القوية.
كان الأداء الاقتصادي لروسيا هو الأضعف بين دول بريكس الخمسة في 2022، فقد كافحت البرازيل وجنوب أفريقيا لتحقيق الازدهار الاقتصادي
في هذا الشأن، يرى الخبير المالي الأميركي، آديم تومركان، أن مجموعة بريكس، تُعَدّ دجاجة ذهبية، ولكنها لم تضع بيضة واحدة حتى الآن منذ إنشائها، رغم ما لديها من إمكانات، مثل نمو الاقتصاد الهندي السريع والقوة التجارية الضخمة للصين، كذلك تضم المجموعة ثلاثة من منتجي السلع الأولية، وهي روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا.
لكنه يقول إن هذه الدول تعاني جميعها من أزمات اقتصادية حادة، وقد لا تتمكن في المستقبل القريب من إنشاء عملة واحدة لمجمموعة بريكس، ولكن حتى إذا تمكنت من ذلك فإن الأمر سيتطلب قدراً كبيراً من التضحيات وسط التناقض السياسي والمصالح المتضاربة واعتمادها جميعاً على السوق الأميركي في النمو الاقتصادي القائم على تصدير المنتجات واستثمار الفوائض المالية. في سندات الخزانة الأميركية.
على مستوى الفوائض المالية، تمتلك جميع دول "بريكس" تقريباً فوائض في الحساب الجاري، وبالتالي تعتمد على استثمار هذه الفوائض لسد العجز في الحساب الجاري الغربي، وتحديداً على الولايات المتحدة وأوروبا في تسويق منتجاتها واستثمار فوائضها.
وينظر العديد من الناس إلى الدولة التي تحقق فائضاً في الحساب الجاري، أي تصدير المزيد من السلع والمدخرات أكثر مما تستورد، بأنها دولة تمتلك اقتصاداً جيداً، والدولة صاحبة العجز في الحساب الجاري، أي استيراد سلع ومدخرات أكثر مما تصدره، بأن اقتصادها سيئاً.
لكن هذا ليس هذا صحيحاً في جميع الأوقات. لأن استثمار الفوائض في أميركا سيعني تقوية الدولار على حساب عملاتها، كما أن التصدير للولايات المتحدة وضعف الإنفاق الاستهلاكي المحلي في دول بريكس، يعني عملياً أن نموها الاقتصادي يعتمد على الولايات المتحدة.
من جانبه، يرى المحلل الاقتصادي البريطاني، ستيفن فاس، أنّ من غير المرجح أن تكون هناك نسخة من اليورو في إطار مجموعة البريكس في الوقت الحالي؛ إذ لم تظهر أي من الدول الأعضاء الرغبة في التخلي عن عملتها المحلية. ويبدو أن المجموعة قد تنتهي إلى إنشاء نظام دفع متكامل للمعاملات عبر الحدود.
حتى الآن لا يبدو أن "وول ستريت" قلقة بشأن وجود منافس جدي للدولار. ويبدو أن الطريق سيكون طويلاً أمام دول بريكس لمنافسة الولايات المتحدة وحلفائها
وعلى الرغم من الحديث المستمر عن التخلص من الدولرة، فإن ما يقرب من 60% من احتياطيات العملات العالمية بالدولار و88% من المعاملات الدولية بالدولار حتى نهاية العام الماضي 2022، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي.
وحتى الآن لا يبدو أن "وول ستريت" قلقة بشأن وجود منافس جدي للدولار. وبالتالي يبدو أن الطريق سيكون طويلاً أمام دول بريكس لمنافسة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
في ذات الصدد، أشار البروفسور الأميركي، مايكل بيتس، في تحليل بموقع "سيكينغ الفا" الأميركي، إلى أن الدول التي تعتمد على التصدير والفائض في الحساب الجاري وليس على نمو الانفاق الاستهلاكي المحلي ستكون عرضة للانكماش الاقتصادي، إن قررت الدول المستوردة التخلي عن سلعها، كما أنها ستضطر إلى ربط عملاتها بعملات الدول المستوردة، مثلما هو الحال بالنسبة إلى اليوان والين الياباني.
ويقول البروفسور بيتس، إن هذه الدول ستعاني، "فهم يشترون السندات الأميركية كضمان (عائد) ويستخدمونها أيضاً لإبقاء عملاتهم ضعيفة مقابل الدولار، مع التأكد من استمرار نمو الصادرات".
ويقول إنه على الرغم من أنه ليس من الحكمة أن تستهلك الولايات المتحدة المزيد من السلع المستوردة وتعاني من أعباء الديون المتزايدة، لكن في المقابل فإن العجز الأميركي المتواصل يحافظ على تدفق السيولة بالدولار على مستوى العالم. وهذا يساهم في انتشار الدولار في الاقتصاد العالمي. لأنه عندما تستورد الولايات المتحدة أكثر مما تصدر، فإنها تبيع الدولار وسندات الخزانة.
وفي المقابل فإن الصين، أكبر دولة مصدرة ولديها فائض تجاري ضخم مع العالم، لا تصدر صافي يوان وتستورد دولارات، وذلك ببساطة لأنها تبيع أكثر من الشراء، وبالتالي، لا يمكن لليوان منافسة الدولار لأنه غير متاح في الأسواق العالمية.
ورغم قوة الصين في التجارة العالمية، ووفقاً لبيانات "سويفت"، يشكل اليوان أقل من 2.5% فقط من المدفوعات العالمية. وهذا يعد لا شيء مقارنة بحصة الدولار البالغة 40% واليورو 36%.
الصين، أكبر دولة مصدرة ولديها فائض تجاري ضخم مع العالم، ولا تصدر صافي يوان وتستورد دولارات، وذلك ببساطة لأنها تبيع أكثر من الشراء
ولتغيير هذا الوضع، يرى الخبير المالي الأميركي، آديم تومركان، أن الأمر يتطلب من الصين أن تتحمل عجزاً ضخماً بدلاً من تزويد العالم بالسيولة والسندات باليوان.
ويقول: "يبدو أن بكين لا ترغب في القيام بذلك في الوقت الراهن، وبالتالي، إذا أرادت مجموعة بريكس الاستغناء عن الولايات المتحدة والدولار، فسوف يأتي ذلك بتكلفة باهظة للغاية في اقتصاداتها التصديرية. ولا أعتقد أن لديهم القدرة السياسية على ذلك".
أما العقبة الأخرى التي تواجه "عملة بريكس" المقترحة، تتطلب عملة بريكس ربط جميع الاقتصادات بالمجموعة بعملة واحدة وبسياستها النقدية الخاصة بها. وفي نظام الربط، يجب أن يكون هناك اقتصاد أو نظام أساسي يحافظ على أسعار الفائدة والسيولة.
من الناحية التاريخية، عندما ترغب البلدان في تشكيل كتلة عملة، فإنها ترتبط بأقوى دولة اقتصادياً وذات معدلات تضخم منخفضة، وفي هذه الحال الصين.
وعلى سبيل المثال، عندما أُنشئ اليورو والبنك المركزي الأوروبي في الفترة 1998-1999، تم تصميمهما على غرار البنك المركزي الألماني "بندسبانك"، حيث كانت ألمانيا مركز القوة في أوروبا.
وكان هذا يعني أن أعضاء منطقة اليورو، الـ20 دولة وقتها، قبل خروج إنكلترا، التي تستخدم اليورو، أن تلتزم السياسات التي وضعها البنك المركزي الأوروبي.
وأدى هذا إلى خلق مشاكل خطيرة بين ألمانيا وبقية منطقة اليورو، مثل قيام البنك المركزي الأوروبي بتيسير سياساته النقدية لدعم الأعضاء الأضعف على حساب المدخرين الألمان، أو مثلما حدث عندما احتاجت اليونان إلى عملية إنقاذ مالي ضخمة في الفترة بين عامي 2010-2012، وكانت عملية صعبة.
ولولا أن الكتلة كانت مدعومة بالولايات المتحدة والمؤسسات الدولية المعتمدة على واشنطن مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، لما تمكنت من ذلك وتركت اليونان للإفلاس.